من الثورة إلى تجارة المنظمات غير الحكومية

1. كارثة الحرب: القتل والنزوح والمجاعة

إن الحرب في السودان، المشابهة للحرب في غزة، تُعد نموذجًا للحروب الجديدة التي تُوجَّه ضد السكان. وكما أشار أليكس دي وال مؤخرًا، هناك عودة لاستخدام سلاح التجويع على مستوى العالم، وقد تم قطع الغذاء والمساعدات عن أجزاء واسعة من السكان.

عمّ تدور هذه الحرب؟ هذه ليست مجرد حرب بين جنرالين. لقد بدأت هذه الحرب أساسًا كحرب مضادة للثورة، وتطورت إلى اقتصاد قائم على التجويع والاستخراج والنزوح.

يُعزى للحرب الآن مسؤولية مقتل ما يصل إلى 150 ألف شخص في حوادث جماعية، وموت أكثر من 500 ألف شخص بسبب الجوع. وهناك 11.8 مليون نازح، وملايين مهددون بالمجاعة. وبينما ارتكبت كلا القوتين المتحاربتين، والميليشيات المرتبطة بهما، جرائم حرب، فمن الواضح أن قوات الدعم السريع، مستندة إلى خبرتها في دارفور، وبوجود الإمارات في الخلفية، قد طوّرت نظامًا لجني الأرباح من الكارثة.

باستثناء تلال البحر الأحمر في الشرق، وجبال مرة في الغرب، وجبال النوبة في الجنوب، فإن السودان بلد منبسط. وهذا ما يفسّر سهولة تمكّن ميليشيات حميدتي (قوات الدعم السريع) من استقدام المرتزقة من منطقة الساحل، وتقدّمها السريع نحو وسط السودان مع فنييها خلال السنة الأولى من الحرب. لم يكن لدى الجيش السوداني (القوات المسلحة السودانية) قوات مشاة، فكان يلجأ إلى إسقاط القنابل من الجو. وقد تعرّضت الخرطوم وأم درمان للقصف من قبل الجيش، بينما نُهبت على يد قوات الدعم السريع. وكانت الشاحنات المحمّلة بالغنائم تتجه غربًا.

في مارس 2025، تمكّن الجيش من إعادة السيطرة على العاصمة المثلثة، وعلى المناطق الشرقية والوسطى من السودان. تلقّى الجيش أسلحة جديدة من تركيا ومصر وإيران، وفعّل ميليشيات إسلامية، وهو أمر يُعد نذير شؤم للمستقبل. أما قوات الدعم السريع فقد استمرت في تلقي الدعم من الإمارات، التي زوّدتها بالأسلحة والطائرات المسيّرة ومرتزقة كولومبيين، مقابل الذهب بشكل أساسي، بالإضافة إلى المكاسب مستقبلية مرتبطة بالنزوح.

يمكن تتبّع تسلسل أحداث الحرب عبر “سودان وور مونيتور”. وفي الوقت الراهن، للحرب مسرحان رئيسيان: كردفان، حيث تتبدل خطوط الجبهة في محيط الأبيض وتشهد المنطقة مذابحاً ونزوحًا مستمرّين؛ ودارفور، حيث سيطرت قوات الدعم السريع مؤخرًا على الفاشر (26 أكتوبر)، وبذلك حصلت على تفوق حاسم في ولاية شمال دارفور. خلال الشهور السابقة، تدفّق عدد كبير من الأسلحة الجديدة من الإمارات عبر ليبيا الخاضعة لسيطرة حفتر. ومنذ صيف 2025، أصبحت قوات الدعم السريع تسيطر على المنطقة الحدودية مع ليبيا، وهو ما سيمنحها وزنًا في أي مفاوضات مستقبلية مع الاتحاد الأوروبي.

في كردفان، تحالفت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال مع قوات الدعم السريع، وتشن هجمات من جبال النوبة. وقد أصبح قائدها في الوقت الحالي نائب رئيس حكومةٍ موازية برئاسة حميدتي. ومع تنافس الجانبين على مزيد من النفوذ في المنطقة، يزداد عدد الضحايا المدنيين في ما تصفه منظمات حقوقية بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم.

في دارفور، قرب الفاشر، كانت توجد مخيمات لجوء ضخمة تعود إلى حروب الإبادة في دارفور في أوائل الألفية. وقد تحوّل أكبر هذه المخيمات، “زمزم”، إلى ثكنة عسكرية وقاعدة مدفعية، بعد أن اضطر مئات الآلاف من المدنيين إلى الفرار، متعرضين لانتهاكات لا تُحصى. لكن ذلك لم يكن سوى بداية. فقد رافق السيطرة على الفاشر ارتكابُ مجازر وجرائم حرب واسعة. لم يقتصر القتل على الرجال الذين اعتُبروا مقاتلين، بل شمل أيضًا المرضى وذوي الإعاقة في آخر مستشفى قائم، إضافة إلى الطواقم الطبية وأعضاء غرف الطوارئ، كما تم اغتصاب النساء وإساءة معاملتهن بشكل ممنهج.

بالنسبة للعديد من النازحين، لا توجد أي فرصة لإعادة التوطين. فالحرب الحالية هي استمرار لحرب دارفور، ولكن هذه المرة بمنظور استثماري صريح. لدى الإمارات وميليشياتها مشروع للاستيلاء على الأراضي عبر التهجير القسري. يجب دفع المساليت بعيدًا عن حقولهم، والفور عن بساتين المانجو الخاصة بهم، والزغاوة والبرتي عن اقتصاداتهم الواسعة. الفائز يستحوذ على كل شيء، ويقيم مزارع أو مراعي ماشية على الأراضي التي كانت سابقًا ملكًا للفلاحين والرعاة. وسيكون تنفيذ هذا المشروع حتماً أسهل بكثير في دولة أمراء حرب في دارفور تكون منفصلة عن السودان. وفي النهاية، لا تحصل الإمارات على الذهب والمعادن والأراضي فحسب، بل تجني أيضًا أرباحًا من اللوجستيات الإنسانية، عبر إطعام السكان النازحين في المخيمات. لكن سنعود إلى هذا لاحقًا.

2. العمل الإنساني، التدخّل، واللوجستيات

في غرب السودان، الغذاء هو المشكلة الأكثر إلحاحًا للنازحين داخليًا. إضافةً إلى القتل والاغتصاب والنهب على يد قوات الدعم السريع، تعيش هذه المناطق حالة احتياج شديد لأنها تمر بالموسم الثالث دون إمكانية للزراعة. وتعتمد الأراضي اعتمادًا كليًا على الري بالأمطار. تحاول منظمات برنامج الغذاء العالمي واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمجلس النرويجي للاجئين إدخال بعض المواد الغذائية، لكن القوافل تتعرّض بانتظام لإطلاق النار من قوات الدعم السريع. ومن خلال خلق الندرة، يريدون دفع السكان نحو المخيمات. هناك أيضًا احتياجات أخرى مرتبطة بالمساعدات الصحية، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع. حميدتي لا يهتم بهذا، لأن السكان بالنسبة لهم عبء لا مستقبل له.

منذ نوفمبر 2024، أعاد أكثر من 2 مليون نازح داخلي توطين أنفسهم في وسط السودان، خصوصًا في ولايات الجزيرة والخرطوم وسنار والنيل الأبيض. هناك العديد من غرف الطوارئ التي تعمل في مجال المطابخ المجتمعية والصحة والتعليم. ولكن هناك قيودًا مفروضة على متطوّعي غرف الطوارئ، مثل التسجيل الإجباري. كما تتعمّد حكومة القوات المسلحة السودانية تأخير شحنات الإغاثة لأسباب أمنية.

أما المساعدات الرسمية للسودان فهي تعاني من نقص شديد في التمويل. فقد خصصت أوتشا مبلغ 4 مليارات دولار لخطة الاستجابة الإنسانية في السودان لعام 2025، لم يُغطَّ منها سوى 26% فقط. أكبر المانحين هم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بينما تقدم الإمارات مساهمة صغيرة لا تتجاوز 9 ملايين دولار. وتوجّه الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبي تمويلهما أساسًا إلى المنظمات الكبيرة مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، وكذلك المنظمة الدولية للهجرة ، حيث يستمر (برنامج إدارة الهجرة بشكل أفضل) حتى خلال الحرب، فإبقاء اللاجئين في أماكنهم هو أمر مركزي بالنسبة للمانحين. ولا تستطيع المنظمات القاعدية (الناشئة من المجتمع المحلي) الحصول على منح حكومية؛ وفقط في بعض الأحيان تصل إمدادات غير رسمية إلى غرف الطوارئ عبر الوكالات الكبيرة.

ما نراه في السودان في الوقت الحالي هو مزيج من التهجير المتعمّد والتجويع في الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، ومن جانب القوات المسلحة السودانية مزيج من تحويل العمل الإنساني إلى مسألة أمنية، إلى جانب فرض القيود على غرف الطوارئ وعودة الإسلاميين. كلا الجانبين يؤسّسان لنظامٍ خاص بهما لدفن الثورة.

الحرب الإنسانية واللوجستيات

بشكل عام، يتميّز العمل الإغاثي الطارئ منذ نهاية الحرب الباردة باتساع الفجوة بين المنطق الداخلي للمنظمات الإغاثية الكبرى واحتياجات المساعدة المحلية، وبالتزايد المتواصل لتورّط العمل الإنساني في التدخلات العسكرية، وأخيرًا وليس آخرًا، بإهمال الإغاثة الطارئة وتحويل الحروب إلى أدوات لسياسة سكانية. كانت المساعدات الطارئة في تزايد مستمر حتى عام 2022/2023، لكنها لم تعد كذلك في السنوات الأخيرة، وهي الآن في حالة تراجع.

دعونا نعود إلى نهاية الحرب الباردة لفهم هذه التطورات بشكل أفضل. يصف مايكل بارنيت، في كتابه إمبراطورية الإنسانية: تاريخ العمل الإنساني (2011)، الحالة في تسعينيات القرن الماضي بطريقة تكاد تتطابق مع ما يحدث اليوم. فهو يشرح كيف أن:

التراجع المتزامن لقدرة الدولة على توفير الأمن أو القيام بمهام الحكم الأساسية، بالتوازي مع صعود التنظيمات شبه العسكرية، أدى إلى نشوب حروب بلا “جبهات”، اجتاحت المدن والبلدات والقرى. لم يعد المدنيون نتيجة مأساوية للحرب، بل أصبحوا أهدافها المقصودة.
(ص. 161)

في هذا السياق، تحوّل جدول أعمال الأمم المتحدة للسلام إلى جدول أعمال للتدخل الإنساني. ومنذ عام 1991، مع الاستجابة لمعاناة الأكراد بعد حرب الخليج الأولى، ظهر مفهوم “المناطق الآمنة” كصيغة للتدخل. وبعد عام، أدّى الرد على المجاعة في الصومال إلى توفير حماية عسكرية للعمليات الإنسانية (إطلاق النار من أجل الإطعام). وأصبح “بناء الدولة” هدفًا إنسانيًا، باعتبار “الدول الفاشلة” السبب الجذري لمعاناة البشر.

ورغم أن أحد الأسباب الجذرية لفشل الدول لم يُعالج في كتاب بارنيت — وهو “إجماع واشنطن” وشروط القروض التي فرضت على الدول وأهمها خفض الإنفاق الاجتماعي — إلا أن نتائج تلك السياسات موصوفة بدقة.

بدأت الدول في تمزيق ما اعتبرته “عبء” الرعاية الاجتماعية. وأصبحت الدولة تدّعي أن توفير الحماية الأساسية هو من اختصاص المنظمات غير الحكومية، والوكالات الدينية، وحتى القطاع الخاص، وأن هذه الجهات أكثر كفاءة في تقديمها.
(ص. 165)

إن صعود المنظمات غير الحكومية موضوع لا يمكن معالجته بالكامل هنا. وكما جادل غريغوري مان، فإن منظمات مثل برنامج الغذاء العالمي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وأطباء بلا حدود ومنظمة إنقاذ الطفولة بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي في تشكيل نمط خاص بها من “حُكم المنظمات غير الحكومية” في دول الساحل. وكما وصفت “إصلاح جاد”، لم تقتصر المنظمات غير الحكومية على الحلّ محل الدولة، بل حدث أيضًا ما سمّته “أنجوة الحراك” أو تحويل الحركات الاجتماعية إلى منظمات. وكما كتبت عام 2004:

قد تتمكن منظمات المرأة العربية، بهياكلها الحالية، من لعب دور في الدفاع عن حقوق المرأة العربية على الساحة الدولية، وتقديم الخدمات لبعض الفئات المحتاجة، واقتراح سياسات ورؤى جديدة، وإنتاج ونشر المعرفة. لكن لتحقيق تنمية شاملة مستدامة وديمقراطية حقيقية، هناك حاجة إلى شكل مختلف من التنظيم، برؤية محلية الجذور وقاعدة قوة أكثر استدامة من أجل التغيير الاجتماعي.

اتّبع المال. نحن على يقين من أن تحليل دور المنظمات غير الحكومية في عصر النيوليبرالية غير ممكن دون تحليل تمويلها، والمالية التي تحكم عملها. وما يزال هذا العمل بحاجة إلى إنجاز.

وبالعودة إلى التسعينات

كانت الأمم المتحدة متفرّجة غير مبالية خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، لكن الوضع كان مختلفًا في أوروبا. فقد أدّت الحروب في يوغوسلافيا السابقة إلى دفع تطورات جديدة نحو التدخلات الإنسانية. ففي البوسنة عام 1992، أُعيد العمل بمفهوم “المناطق الآمنة”، وتولت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تنسيق أكثر من 250 وكالة لتقديم المساعدات، وفي الوقت نفسه منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا الغربية — وهي السياسة التي عُرفت باسم “الاحتواء عبر الأعمال الخيرية”.

وفي مارس 1999، بعد أن ردّ النظام الصربي على غارات الناتو على بلغراد بموجة من التطهير العرقي، تولى الناتو، إلى جانب المفوضية، تنظيم الإغاثة، مع عسكرة مخيمات اللاجئين، وتحويل كامل النشاط الإنساني إلى ما سُمي بـ “محاربين العمل الإنساني”.

وقد استُخدمت المفاهيم نفسها خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان (2001–2021) والعراق (2003). ففي “الحرب على الإرهاب”، أصبح العمل الإنساني جزءًا من الاستراتيجية العسكرية الأمريكية. وفي ذلك الوقت، دخلت الإمارات على الخط. لم يرسل الإماراتيون طائراتهم المقاتلة إلى أفغانستان فحسب، بل افتتحوا أيضًا مدينة المساعدات الإنسانية الدولية في دبي كمركز لوجستي. واليوم، يُعد هذا الحي مقرًا للمخزون العالمي للمفوضية، وموقعًا مهمًا لبرنامج الغذاء العالمي.

 ٌفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يتحدث عن “التحوّل اللوجستي” في العمل الإنساني. ففي مقالته اللافتة، قام رفيق زيادة بتحليل الصلة بين اللوجستيات الإنسانية والمصالح التجارية والإسقاطات العسكرية، مستخدمًا مثال الإمارات. وهو لا ينسى الإشارة إلى أن العمالة المهاجرة، الخاضعة لرقابة مشددة في دولة بوليسية، عنصر أساسي لكل من اللوجستيات الإنسانية والعسكرية. وقد لخّص زيادة نتائجه في مقالٍ في مجلة MERP، قائلًا:

بدلًا من قراءة التدخلات العسكرية بمعزل عن الأجندات الإنسانية المزعومة، من الضروري تتبّع العلاقة التكافلية بين اللوجستيات الإنسانية والتجارية والعسكرية.

وللإمارات تاريخ نشِط في الاحتضان العسكري–اللوجستي في إفريقيا. ففي اليمن وليبيا، تعلّم الإماراتيون كيفية استخدام الميليشيات الوكيلة لخدمة أجنداتهم، وهذا ما يفعلونه الآن في دارفور على نطاق أوسع. ووفق اقتصاد يقوم على التهجير، يرغبون في دفع السكان نحو مخيمات اللاجئين، وإقامة نظام قائم على التكسب من العمل الإنساني والاستخراج الزراعي.

ومن الواضح أن الهياكل المحلية للمقاومة والمساندة المتبادلة، مثل لجان المقاومة وغرف الطوارئ، لا تتلاءم مع هذه الأجندة. وعندما سيطروا على الفاشر، قتلوا عددًا كبيرًا من أعضاء المطابخ المجتمعية والمبادرات التطوعية، إلى جانب آلاف الضحايا الآخرين.

3. غرف الطوارئ (ERRs) بوصفها العمود الفقري لجهود الإغاثة

مع غياب أي بنية دولة قادرة على توفير الغذاء والصحة والتعليم، تولّت لجان المقاومة وغرف الطوارئ سد هذا الفراغ منذ بداية الحرب. وكما كتبت ذا نيو هيومانيترين قبل بضعة أشهر:

لقد شكّلت غرف الطوارئ، وهي مجموعات متجذرة في الأحياء تقودها فئة الشباب، العمود الفقري لجهود الإغاثة — إذ أُنشئت مع اندلاع الحرب — إلى جانب مبادرات المجتمع المحلي الأخرى.
وبدعم من شبكات محلية وسودانيي الشتات، ومن بعض المانحين الدوليين، تمكّن المستجيبون المجتمعيون من الوصول إلى ملايين الأشخاص — عبر تشغيل مطابخ جماعية، ودعم العيادات، والحفاظ على البنية التحتية، وإطلاق مبادرات تعليمية ونسوية.
ورغم أن المساعدة المتبادلة عنصر مركزي في العديد من الأزمات، إلا أن حجم وتأثير الجهود المحلية في السودان كانا عميقين، ويقول المتطوعون إن نموذجهم القائم على التضامن يقدم تصورًا جديدًا للسياسة ونمطًا مختلفًا وجذريًا للاستجابة الإنسانية.

نشرت ذا نيو هيومانيترين سلسلة من المقالات حول المساعدة المتبادلة وغرف الطوارئ منذ يونيو 2023، وصولًا إلى مقالٍ عن المطبخ المجتمعي في معسكر طويلة قرب الفاشر في يوليو 2025. وقد أصبح هذا المعسكر اليوم ملاذًا للعديد من النازحين الفارين من الفاشر.

ترجع أصول غرف الطوارئ إلى ثورة 2018. فقد نُظّمت بواسطة لجان المقاومة التي برزت كفاعل مركزي في النضال ضد النظام الإسلامي السابق. وكان العديد من الفاعلين السياسيين يعوّلون على لجان المقاومة للعب دور محوري في عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد. وبفضل خبرتها في الإدارة الذاتية وحضورها المحلي، قدّمت هذه اللجان آفاقًا واقعية لديمقراطية قاعدية مباشرة.

قبل عام، أجرينا حوارًا مع عثمان عبد الله، وهو ناشط سابق في أم درمان. وقد قال لنا إن العمل في لجان المقاومة:

كان سياسيًا منذ البداية، لكن الموضوعات السياسية للجنة كانت تنطلق من احتياجات الأحياء. وهذا مصدر قوة، لم يكن ضعفًا أو “لا سياسة”. العمل على الغاز، والطعام، والمواصلات، وغيرها… لم يكونوا فقط يقدّمون خدمات. […] إذًا كان العمل سياسيًا منذ البداية، لكنهم دائمًا يقولون إنه عندما تكون هناك أزمة، يكون العمل الإنساني هو الطريق للوصول إلى المجتمع — لكنه عمل لخدمة قضية سياسية.

وفي أبريل من هذا العام، بعد عامين من الحرب، وصفت منصة قنطرة غرف الطوارئ بأنها “شبكة إغاثة ثورية”. وفي أغسطس، نُشر مقال رائع عن غرف الطوارئ النسوية في أفريكان أرغيومِنتس بقلم هناء جعفر، شدّدت فيه أيضًا على الصلة بين لجان المقاومة وغرف الطوارئ:

منذ الأيام الأولى للحرب في منتصف أبريل 2023، ظهرت غرف الطوارئ باعتبارها امتدادًا عمليًا للجان المقاومة. […] وغرف الطوارئ أكثر من مجرد استجابة إنسانية مُنسّقة، لأنها تبني عملها وروحها على الرؤية السياسية الأصلية للجان: بناء فضاء مدني قاعدي يركز على الناس بهدف إعادة تشكيل العلاقة غير المتوازنة بين المجتمع والدولة.
ومع تكيّف خطاب لجان المقاومة الثوري مع واقع الحرب، أصبحت غرف الطوارئ ظاهرة اجتماعية–سياسية فريدة. فقد حافظت على جوهرها التشاركي حتى مع انتقال دورها من تنظيم الاحتجاجات إلى تقديم الخدمات. وتجسّد مفهومها لـ “السيادة الشعبية” في مشاركة المواطنين المباشرة في صنع القرار عبر توزيع السلطة بين مؤسسات المجتمع.

يبقى مستقبل غرف الطوارئ مجهولًا. فحلفاء القوات المسلحة السودانية — مثل تركيا وقطر — يميلون إلى دعم البنى الإسلامية، ومصر تخشى انتقال أي إرث ثوري إليها. أما في غرب السودان، فتقوم قوات الدعم السريع بالقضاء على كل عقبة تقف أمامها. وكما سنرى الآن، هناك أيضًا خلافات داخلية حول ما يجب أن تكون عليه غرف الطوارئ في المستقبل: هل يمكنها الحفاظ على مفهومها للديمقراطية من الأسفل؟ أم أنّها ستُحوَّل ضمن عملية يمكن أن نسمّيها “أنجوة الثورة” أو تحويل الثورة إلى نموذج للمنظمات غير الحكومية؟

4. مواجهة الخطابات

مع تغيّر موجات الأزمات والأنظمة، ظلّت المساعدات الدولية في السودان تتأرجح بين الإغاثة الطارئة في الهامش والمساعدات التنموية التقليدية في الخرطوم. وفي الثمانينيات — وهي سنوات الجفاف والحرب والمجاعة في الأطراف — نشأت نخبة مُستجيبة تدور حول المنظمات غير الحكومية في الخرطوم، وتبنّت أيديولوجيا وممارسات “حُكم المنظمات غير الحكومية” تحت مظلة ما كان يُسمى بالمجتمع المدني. وبالإضافة إلى قضايا الفقر والجوع، أصبح الحديث يدور عن حقوق الإنسان والتمكين. وقد وصفت الباحثة السودانية رجاء مكّاوي هذه العملية بشكل بليغ في مقابلة مع MERIP:

في الثمانينيات، كان السودان (مثل العديد من دول الجنوب العالمي) خاضعًا لعملية التحرير الاقتصادي نتيجة تعامله مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، الذي جعل السياسات الاقتصادية والقروض مشروطة بالتحرير السياسي والاقتصادي. ومع شروط صندوق النقد الدولي ظهر “مجتمع مدني جديد”، ممول بكثافة من المانحين الدوليين. وقد أدى ذلك إلى وضعٍ فيه مجتمع مدني أكبر، ولكن بتمثيل أقل — مقارنةً بنمط المجتمع المدني القاعدي الذي كان موجودًا عبر تاريخ السودان. […] ومع سياسات التحرير، تحوّل التركيز بقوة نحو الفكر الغربي لتمكين المرأة، حيث فرض الترقي الرأسي للنساء عبر الوظائف والمناصب والتوجّه نحو الحراك الاجتماعي الصاعد إلى إنتاج دائرة صغيرة من النخبة النسائية.

[…]
وبحلول العقد الأول من الألفية، أصبح “السلام الليبرالي” هو الإطار المهيمن. وتدفقت التمويلات نحو المشاريع المرتبطة بأجندة المرأة والسلام والأمن (كما نص عليها قرار مجلس الأمن لعام 2000). […] وفي النهاية، أدت هذه الأنظمة إلى عزل الجمهور العام عن التحكم في تعريف السلام “إن وجد” أو تدخلات المجتمع المدني فيه. والأسوأ أنها خلقت مسارات سياسية موازية ومجزأة لمجموعات مختلفة بحسب خلفياتها الجغرافية والإثنية. فأصبح السلام في دارفور — كما كان في جنوب السودان — يُفترض أن له عملية وأدوات ولغة منفصلة تمامًا عن السياسة السائدة. وقد ساهم هذا في تفتيت الجسم السياسي السوداني على مستوى المناطق والمجتمعات، مما أضعف الإحساس الوطني بالهوية.

منذ بداية الحرب، توقفت أنشطة المنظمات غير الحكومية داخل السودان إلى حدٍّ كبير. فقد أُغلقت المكاتب في الخرطوم، وغادر الموظفون الأجانب، وتفرّق العاملون السودانيون. وقدّم تقرير صادر عن وحدة تنسيق الأزمات في السودان صورة عن تنوّع المجموعات وشبكات المساعدة المتبادلة، وخاصة غرف الطوارئ. كانت درجة التنسيق ضعيفة، وكانت مصادر الدعم الأساسية تعتمد على المساهمات المحلية. لذلك حاولت وحدة تنسيق الأزمات ربط هؤلاء الفاعلين المحليين بمنظمات الشتات والجهات المانحة الأكبر، مع احترام خصوصيتهم المحلية واستقلالهم الذاتي. وكما قالوا:

“من الأفضل النظر إلى غرف الطوارئ لا بوصفها مؤسسات بالمعنى التقليدي، بل بوصفها مراكز شبكية تقوم على تعبئة الموارد المحلية باستخدام القدرات المحلية.”

ومؤخرًا، أصبحت الحاجة إلى استجابة إنسانية مختلفة، موضوعًا للعديد من البيانات الصحفية. وهذه هي القصة وراء ذلك: ففي فبراير 2024، زار ثلاثة من منظّمي غرف الطوارئ مقر الأمم المتحدة ودعوا المجتمع الدولي للاعتراف بغرف الطوارئ كفاعل في المجال الإنساني وتقديم الدعم لها. وفي العام نفسه، ظهرت الغرف على الإنترنت كمنظمة غير حكومية، بإشراف المخرج حجوج كوكا كـ“مسؤول العلاقات الخارجية”.

أسسوا مجلس تنسيق التوطين، وتمكّنوا في الولايات المتحدة من بناء علاقات مع الكنيسة الوحدوية ومع مجموعة الإقتراب من الإنسانية في ولاية نورث كارولاينا. وكان إنجازًا كبيرًا أن تحصل غرف الطوارئ، ممثَّلة في مجلس التنسيق على جائزة رافتو لعام 2025، وعلى جائزة نوبل البديلة لعام 2025.

لكن في هذا السياق علينا ألا ننسى كلمات جيروم توبيانا:

“يعتقد صانعو القرار الغربيون الآن أن مشكلات السودان يمكن حلّها عبر ‘المدنيين’ و‘المجتمع المدني’ — وهي فئات غير واضحة تمامًا بسبب تشتتها وعجزها — وخاصة غرف الطوارئ. وهذا دليل على أنهم تخلّوا تمامًا عن مسؤوليتهم في تقديم المساعدة وإنهاء العنف.
لقد رُشّحت غرف الطوارئ العام الماضي وهذا العام لجائزة نوبل للسلام. لكن لا بأس بنوبل، كما قال لي أحد مؤسسي غرفة الطوارئ في زمزم؛ الأولوية هي وقف الحرب. وهو الآن في مخيم للاجئين في تشاد، يعتمد على إمدادات إغاثية غير موثوقة من الغرب.”

بعد سقوط الفاشر، تحدثنا إلى عضو في غرفة طوارئ طويلة. وبالاشتراك مع منظمة أطباء بلا حدود، يتحملون مسؤولية أكثر من نصف مليون نازح، مع وصول آلاف الفارين الجدد من الفاشر. وهم يعملون على إنشاء مخيم ثانٍ، وقد طلبوا دعمًا من مجلس تنسيق التوطين دون جدوى. ويتلقّون بعض المساعدات من برنامج الغذاء العالمي، والمجلس النرويجي للاجئين، وجهات أخرى. ويأملون أن يستمرّ وضع الحماية الهش الذي توفره حركة تحرير السودان.

في هذا البحث، نحن بالتأكيد لا نعارض الدعم المباشر لغرف الطوارئ. ما نرغب في التركيز عليه هنا هو إعادة تقديم غرف الطوارئ التي نشأت من لجان المقاومة الثورية وتقاليد المساعدة المتبادلة، في شكل منظمات غير حكومية، وتحويلها من مشاريع ديمقراطية قاعدية إلى مشاريع مجتمع مدني. على سبيل المثال، أعاد المخرج حجوج كوكا إنتاج غرف الطوارئ في الخرطوم بوصفها “مشاريع مجتمع مدني”، كما قال: “نحن ننسق مع الأسواق والتجار والأفراد”. وبالمثل، تدعو لجنة الخدمة التابعة للكنيسة الوحدوية لدعم “المرافق المؤقتة” السودانية، والتي يدّعون أنها تأسست خلال جائحة كوفيد-19. (بعضها صحيح، لكن هذا ليس جوهر الموضوع.) وبالمثل، في ألمانيا، يوصي جيريت كورتز وأندريا بوهام بمنح غرف الطوارئ اهتمامًا أكبر، متجاهلين كذلك أصلها الثوري. وقد يتيح هذا لمجلس تنسيق التوطين إيجاد مزيد من المانحين، لكنه يأتي بثمن؛ فهم يعرضون نموذج غرف الطوارئ في السوق العالمية، لكنهم يشوّهونه.

الانتقال من اللجان الثورية إلى المنظمات غير الحكومية ليس مجرد مسألة كلمات أو تسميات، بل مواجهة جوهرية للخطابات. الأمر يتعلق بالديمقراطية القاعدية مقابل الهياكل الهرمية، والمسؤولية الجماعية مقابل المسار المهني، وبالقدرة على توجيه العمل التطوعي والتصرف في التبرعات. أي شخص يتعامل مع المنظمات الكبرى لا يملك خيارًا سوى قبول قواعدها. في البداية، تكون متوسّلًا، لكن الوصول إلى السلطة والمال يصبح إدمانًا. لاحقًا، تصبح مشرفًا ومتحكمًا.

قال يان إلعبيد، مسؤول جمع التبرعات في مجلس تنسيق التوطين عند ترشيحهم لجائزة رايت ليفليهوود: “كانت لجان المقاومة العمود الفقري للمقاومة. ومع غرف الطوارئ، نفعل ما لم نستطع فعله مع لجان المقاومة لأنها غير سياسية.” وأضاف حجوج كوكا أنهم جلبوا ديمقراطية جديدة إلى السودان. وسنرى بعد قليل عن أي نوع من الديمقراطية يتحدثون.

إذا قمت بمقارنة الميثاق الثوري لشهر يناير 2023، الذي تم إعداده في نقاشات عديدة من قبل مندوبين من لجان المقاومة، مع الميثاق المعدّ مسبقاً لمجلس تنسيق التوطين ، ستلاحظ الفارق في مفاهيم “الديمقراطية” من الوهلة الأولى. يتحدث الميثاق الثوري عن سلطة الشعب، بينما يتحدث ميثاق مجلس التنسيق عن الحوكمة الرشيدة. وقد صُمّم هذا الأخير لاستهداف المانحين الدوليين. فهو يتحدث عن مساعدات غير استعمارية، لكن أبرز القائمين عليه، مثل مسؤول جمع التبرعات واثنين من مسؤولي الاتصال الخارجي، هم جزء من إدارة المنظمات غير الحكومية الغربية على نمط ماكينزي. يأتي هؤلاء مع ألواحهم البيضاء وأدوات التنسيق، ويعرفون مسبقًا كيف يجب أن تكون النتائج. يشعرون بالراحة في عالم الأوراق، طلبات المشاريع والفواتير. قارن هذا مع ناشطي لجان المقاومة، الذين يحاولون بروحهم الثورية ومن خلال فيسبوك صناعة نموذج عمل إنساني ثوري وقاعدي. إنها عقلية مختلفة تمامًا على الجانبين.

في تدوينته عن معركة المواثيق، وصف تهارقا النور التحول في المواقف السياسية خلال الحكومة الانتقالية في السودان (منتصف 2019 حتى أكتوبر 2021)، والانقسام بين لجان المقاومة، بين الدعوات لـ “هبوط ناعم” والمطالبات بـ “تغيير جذري”.

في قلب هذا التحول كان هناك منطق مألوف: الاستقرار أولًا. بدفع من المانحين الدوليين ووكالات التنمية والمؤسسات متعددة الأطراف، بدت هذه الفكرة جذابة — إنهاء الاضطرابات، تأمين الاستثمارات، وبناء المؤسسات. لكن تحت ذلك كان هناك تبادل ضمني: التضحية بالعدالة مقابل النظام، والتحول مقابل الإصلاح، ومطالب الشعب مقابل أولويات المانحين.

كما كتب النور، أصبح نموذج السلام الليبرالي — الذي يركّز على تحرير الأسواق، والتحالفات النخبوية، وحكم التكنوقراط — الإطار المهيمن خلال تلك الفترة القصيرة قبل الانقلاب العسكري في 2021:

كانت تدفقات التمويل هي التي تحدد الأجندات، وتم تقسيم الحركات القاعدية إلى مجموعات مهنية متنافسة على الشرعية من خلال أطر المانحين بدلًا من الشارع.

أصبحت المنظمات غير الحكومية، التي كانت تُرى في البداية كحلفاء للتحول، وسيطًا في لعبة غيرسياسية. ومع التمويل الدولي، جاءت شروط ضمنية — غير صريحة، لكنها هيكلية. تكيفت المنظمات المحلية، ليس من خلال تعميق جذورها السياسية، بل بالاصطفاف مع القوائم المرجعية الخاصة بالمانحين. ونتيجة لذلك، تراجع الفضاء الثوري، وتفككت وحدته بسبب تنافس اللجان على الظهور والوصول والبقاء.

ومن الأمثلة اللافتة على هذه المنظمات، كما ذكر النور، منظمة المعمل المدني في السودان التابعة لحجوج كوكا، التي تأسست في 2021، مستفيدة من استياء الشباب الواسع من الأحزاب التقليدية — وجذبت ناشطين غير منتمين، وحوّلت طاقتهم من الشارع إلى برامج ممولة من المانحين تخفف في النهاية من المطالب الثورية.

مع بداية الحرب في أبريل 2023، كانت هناك مناقشات كثيرة داخل غرف الطوارئ وبينها، حول ما إذا كان يجب التسجيل لدى مفوضية العون الإنسانية للحصول على ترخيص قانوني لمزاولة أنشطتها. وكما يشير تقرير وحدة تنسيق الأزمات كانت الآراء متباينة، وظروف المناطق المختلفة وداخل غرف الطوارئ أدت لاعتماد استراتيجيات مختلفة. واليوم الوضع مشابه، حيث تنضم بعض الغرف لمبادرة مجلس التنسيق للحصول على تمويل، بينما تقاوم أخرى ذلك بشدة. وهم يعلمون أن مبادرة كوكا أُطلقت ومولت من المنظمة الأمريكية “المعهد الجمهوري الدولي”.

وفي هذا السياق، نقتبس بيانًا صادرًا عن تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم بتاريخ 21 أكتوبر 2024:

نرفض ما يسمى بـ “مؤتمر لجان المقاومة” المزمع عقده في عنتيبي، أوغندا. […] هذه محاولة صارخة للتحايل والخداع للحصول على لالتزامات المالية المتفق عليها مع المانحين مقابل الأجندة السياسية التي يحاولون دفعها. لذلك، من الضروري الكشف عن من نسّق هذا الحدث: مصعب المحجوب، عضو لجنة العمل الإنساني في لجنة تنسيق منظمة  “بروقرس أو تقدم”؛ إبراهيم الحاج، منسق المعهد الجمهوري الدولي الأمريكي؛ وحجوج كوكا، ممثل منظمة “قصة”. هؤلاء الأشخاص عملوا منذ زمن طويل كوسطاء لجذب لجان المقاومة لورش عمل منظمات مخططة من الاستخبارات الدولية والاستثمار في مشاريع بأجندات استخباراتية تستهدف لجان المقاومة. […].
لن نسمح بهذا التخريب المتعمد مهما كان الثمن. إن أفعال منسقي المعهد الجمهوري، ومانحيه، والأشخاص المنسقين لهذا المؤتمر، بكل أشكالها من تقويض استقلالية المنظمات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني في السودان، والاستيلاء على أصواتهم، وإنفاق ما يقارب 400,000 دولار للتأثير على مواقفهم السياسية وهياكلهم التنظيمية، بتواطؤ مع بعض القوى السياسية السودانية، عملٌ مخزٍ. هذا الفعل يُعدّ جريمة فساد سياسي كاملة، متجاهلًا أبسط المبادئ والقيم لمراكز البحث ومنظمات المجتمع المدني، والتي يجب أن تسعى لضمان استقلالية جميع مكونات الفضاء المدني، لا لاستقطابها أو التلاعب بها.

كما يتضح من هذا البيان، فإن الاختلافات عميقة، ومجلس التنسيق يلعب بطريقة صارمة لتحقيق أهدافه. نحن لا نلوم أياً من غرف الطوارئ إذا كانت في حاجة ماسة للتبرعات، لكن مشكلة الخضوع لأجندات المانحين أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. يجب أن تكون هناك طرق أخرى لدعم غرف الطوارئ مباشرة.

كما كتب تهارقا النور:

اليوم، تلك الرؤية [للجان المقاومة] تتواجد تحت الحصار — بالقنابل والرصاص، وأيضًا في غرف الاجتماعات وطاولات المفاوضات، ومبادرات “السلام” الإقليمية والدولية. ومع ذلك، لا تزال الثورة مستمرة — ليست فقط في الذاكرة، بل في البنى التحتية التي تعمل في صمت للمساعدة المتبادلة، وشبكات الثقة، ووضوح العهود السابقة:
لا تفاوض. لا شرعية. لا مساومة.

. 5- الحجج السودانية

التحليل والخبرات من داخل الحركات القاعدية في السودان يقدم نقدًا قويًا لنظام العمل الإنساني التقليدي، ويطرح مسارًا بديلًا وواضحًا للمستقبل.

النقد المركزي، الذي يتردد صداه بين باحثين مثل رجاء مكاوي، هو أن نموذج المانحين الدوليين للمجتمع المدني، الذي تم تأسيسه منذ الثمانينات، غالبًا ما يوجد نخبة مهنية منفصلة عن الواقع القاعدي. هذا النظام يعطي الأولوية للغة “المنمقة والمعقمة” عن حقوق الإنسان والتمكين على حساب العمل السياسي الفعلي لمعالجة الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية اليومية. والنتيجة هي: مجتمع مدني أكبر، لكن بتمثيل أقل، مما يقوض النماذج التاريخية للمجتمع القائم على الاعتماد على الذات، مثل الجمعيات الأهلية.

لقد طلبنا من أصدقاء سودانيين التعليق على الاحتياجات الفعلية لتقديم المساعدات في السودان. حججهم ليست نظرية فقط، بل ولدت من النضال العملي من أجل البقاء والسيادة.

كما شرح صديقنا هـ:

هناك العديد من المشاكل الكبيرة المتعلقة بالمساعدات الإنسانية. أولًا، كمية المساعدات المخصصة للسودان صغيرة. أما المشكلة الأخرى التي ساهمت بشكل كبير في الوضع السوداني فهي البيروقراطية لحكومة الأمر الواقع. وصعوبة الوصول إلى الناس بالمساعدات الإنسانية، خاصة في المناطق تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وأخذ التصاريح من الحكومة لتقديم المساعدة يستغرق وقتًا طويلًا، حيث تُدار مفوضية العون الإنساني بواسطة الأجهزة الأمنية. وبالتالي يتم التعامل مع المساعدات الإنسانية من منظور أمني، مما يزيد من تكاليف مساعدة الناس بالإضافة إلى البنية التحتية المدمرة بالفعل. بشكل عام، إدارة المساعدات تستهلك نحو ٤٠٪ من قيمتها، وأحيانًا أكثر!
على الرغم من ذلك، يمتلك الشعب السوداني خبرة كبيرة في تقديم المساعدات الإنسانية من الأسفل من خلال المبادرات المحلية، مثل غرف الطوارئ، في شراء المستلزمات من السوق المحلي، إلا أن المنظمات الدولية لا تتكيف مع ذلك. بالطبع هذا له علاقة بالبيروقراطية، ولكنه مرتبط أيضًا بمصالح شركات النقل وعوامل رأسمالية أخرى متورطة في العملية. وهناك بعد سياسي آخر يكمن في الرغبة في إبقاء المجتمعات المحتاجة معتمدة على المساعدات.

كانت فكرة مجلس التنسيق تهدف للتنسيق بين غرف الطوارئ ومشاركة المعرفة والخبرات، لكن مع مرور الوقت تحولت إلى جسم يصادر قرارات غرف الطوارئ المحلية/القاعدية، وهي محاولة لتحويل هذه الغرف من مشاريع قاعدية تمتلك قراراتها ورؤاها إلى مجرد آليات لتنفيذ رؤية المجلس. هناك مشكلة أخرى، وهي أن أعضاء المجلس ليسوا منتخبين ولم يتم حتى ترشيحهم من غرف الطوارئ، مما يخلق مشكلة جوهرية: غياب المساءلة، وهو ما يجعل ولاءهم للمانحين أكبر من ولائهم للاحتياجات الإنسانية، ويجرد روح العمل القاعدي. وهذا شيء مقصود في حد ذاته، لتضييق دائرة صنع القرار ومركزيته. هناك جهود لإعادة مجلس التنسيق إلى نقطة البداية، والتي يجب أن تكون مساحة للتعلم المتبادل والتنسيق بدلًا من اتخاذ القرارات بشكل منفرد.

تقدم التجارب التي شاركتها رزاز بشير وزملاؤها من مركز استناد مثالًا ملموسًا على هذا الصدام، وكذلك طريقة محتملة للخروج منه. عملهم مع غرف الطوارئ الزراعية في دارفور يبرز مسألة التمويل الأساسية كعنق الزجاجة. منذ البداية، أعربت هذه الغرف عن رغبتها في الانتقال من مجرد تقديم الخدمات إلى إنشاء أنشطة إنتاجية تضمن الاكتفاء الذاتي طويل الأمد.

هذه الرؤية تتعارض مباشرة مع نظام الاعتماد الدائم على المساعدات. كما تشرح بشير، الجواب الواضح هو التحول من الاعتماد على التمويل إلى الاكتفاء الذاتي. هذا ليس مثالًا بعيدًا، بل هدف عملي. في الزراعة المطرية، على سبيل المثال، يمكن لاستثمار أولي متواضع أن يتيح للمزارعين تحقيق الاكتفاء الذاتي خلال موسمين زراعيين إلى ثلاثة مواسم. والخطوة المنطقية التالية، والتي تحددها بشير كـ “أوضح مسار”، هي وضع قيمة مضافة للمنتجات الزراعية عبر التصنيع المحلي، مما يوسع قاعدة المستفيدين ويبني اقتصاديات محلية أكثر قدرة على الصمود.

بعيدًا عن النقد، يبتكر المجتمع المدني السوداني نماذج تمويل بديلة تتماشى مع مبادئ الثورة في التضامن والاعتماد على الذات:

  • نموذج اشتراك الشتات: مبادرات مثل مجموعة التضامن السودانية في كندا تُظهر نهجًا مجتمعيًا حيث يقدم الشتات السوداني تمويلًا مباشرًا وجماعيًا لمشاريع محددة، متجاوزًا الوسطاء البيروقراطيين الكبار.
  • نموذج الأصول الاجتماعية: إعادة تصور جذرية للموارد، تتجاوز المعاملات المالية. يتضمن تعبئة الأصول المحلية غير المالية — مثلاً شاحنة، مهارة، قطعة أرض أو عمل — حيث يعتمد العائد على المشاركة والمنفعة الجماعية وليس الربح المالي. يستفيد هذا النموذج من قوة المجتمع القائمة ويوزع الموارد بعدالة. هذا النموذج التشاركي يضمن الحماية من الهيمنة والاستحواذ، ويجعل العملية في أيدي الناس، مما يسمح لهم بتطوير مهاراتهم ومشاركتهم. كما تختتم بشير، هذا عمل سياسي مطلق. إنها جهد مباشر لبناء فضاء مدني تُمارس فيه السيادة الشعبية يوميًا، وضمان 
  • مقدرة الأجسام الناشئة من الثورة على الاستمرار وتحديد مستقبلها المستقل عن الأجندات الخارجية.

تحت هذا الجهد العملي يوجد دافع سياسي عميق. النقاش الرئيسي، كما تكشف بشير، يتعلق بمنع اختطاف هذه المجموعات القاعدية. تعتبر غرف الطوارئ ولجان المقاومة هياكل شعبية وثورية. المفتاح لحمايتها والحفاظ على “بذرة الثورية فيها” هو توسيع المشاركة الشعبية.

ملخص الحجج السودانية:

  • رفض الاعتماد: غالبًا ما يخلق النظام الدولي الحالي للمساعدات طبقة مهنية ويعزز الاعتماد الطويل الأمد، مما يقوض الاستقلال المحلي والمساءلة.
  • المطالبة بالسيادة: يجب توجيه الدعم بطرق تعزز، لا تقوض، المبادئ الثورية للاعتماد على الذات والديمقراطية المباشرة والسيادة الشعبية التي تجسدها غرف الطوارئ ولجان المقاومة.
  • الاستثمار في الإنتاج، لا الاستهلاك فقط: الأولوية للمجموعات المحلية هي إنشاء اقتصاديات منتجة ومستدامة — من الزراعة إلى التصنيع ذي القيمة المضافة — لكسر دورة المساعدات الطارئة.
  • الابتكار في حشد الموارد: تبتكر المجموعات القاعدية نماذج تمويل غير استغلالية تعتمد على تضامن الشتات وحشد الأصول الاجتماعية، بما يتماشى أكثر مع قيمها المجتمعية.
  • المشاركة كوسيلة حماية: تعتبر المشاركة المجتمعية الواسعة أساسًا للحماية من اختطاف هذه التنظيمات القاعدية من قبل الفصائل المسلحة، النخب السياسية أو المنظمات غير الحكومية. لذلك يجب أن يهدف التضامن إلى توسيع، لا تضييق، هذه القاعدة التشاركية.

*هذا المقال تم نشره مسبقاً باللغة الانجليزية على https://migration-control.info/en/blog/from-revolution-to-ngo-governance/

أضف تعليق