اللاجئون السودانيون في مصر: الهجرة وسياسات الحدود

بقلم: إيمان صالح

عندما اندلع القتال في العاصمة السودانية الخرطوم صباح الخامس عشر من أبريل عام 2023، قبل أيام قليلة من عيد الفطر، وجد ملايين المدنيين أنفسهم عالقين بين فصيلين متحاربين: القوات المسلحة السودانية (الجيش السوداني) وقوات الدعم السريع (الميليشيات شبه العسكرية). ما بدأ كصراع على السلطة بين الجنرالات سرعان ما تحول إلى حرب شاملة ابتلعت مدناً بأكملها وأجبرت عائلات على الفرار في ما أصبح أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم اليوم.

قبل الحرب، كان السودان في الأساس يواجه أزمات إنسانية متداخلة. فقد كان يستضيف أكثر من مليون لاجئ من دول مجاورة مثل جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا، بينما كان الملايين داخلياً قد نزحوا جراء صراعات سابقة. لكن الحرب التي اندلعت في العام 2023 أدّت إلى أزمة غير مسبوقة. فوفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد فرّ أكثر من 12 مليون سوداني من منازلهم بحلول نهاية عام 2024، منهم 8.8 مليون نازح داخلياً و3.2 مليون لجأوا إلى الخارج، معظمهم إلى دول الجوار. وكانت مصر، لقربها وروابطها التاريخية، إحدى الوجهات الرئيسية.

تتمتع مصر والسودان بعلاقة خاصة. ففي عام 2004، وقّع البلدان اتفاقية الحريات الأربع، التي منحت مواطني البلدين حقوق التنقل والإقامة والعمل والتملك دون تأشيرة. وكانت هذه الأحكام شديدة الأهمية للفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال وكبار السن. ومع اندلاع الحرب، اتجه كثير من السودانيين، خصوصاً من الخرطوم، شمالاً نحو مصر. ومع قصف مطار الخرطوم في اليوم الأول من النزاع، أصبح السفر الجوي مستحيلاً، فبدأت الحافلات تنقل العائلات نحو الحدود المصرية عبر طرق خطرة ومناطق قتال نشطة.

في البداية، سمحت السلطات المصرية بدخول جميع المواطنين السودانيين دون شروط، لكن هذا الوضع سرعان ما تغيّر. ففي مايو 2023، بعد شهر واحد فقط من اندلاع الحرب، فرضت مصر متطلبات تأشيرة جديدة على جميع السودانيين، بعدما كانت القيود مقتصرة فقط على الذكور بين 16 و50 عاماً. جاء هذا القرار فجأةً وبدون إنذار، مما ترك العديد من العائلات عالقة عند المعابر الحدودية والمطارات الدولية وفي بلدات مهجورة، دون القدرة على أو معرفة التعامل مع التعقيدات البيروقراطية المتغيّرة. ورغم إعلان وزارة الخارجية المصرية أن الهدف هو “تنظيم” الدخول وليس منعه، كان الواقع بالنسبة لعشرات الآلاف العالقين واضحاً: أبواب العبور نحو مصر تُغلق.

أصبح الحصول على تأشيرة الدخول إلى مصر كابوساً لوجستياً. إذ لم يكن في السودان سوى مكتبين فقط لمعالجة التأشيرات: أحدهما في بورتسودان، العاصمة الإدارية الجديدة التي تبعد  حوالي 800 كيلومتر عن الخرطوم، والآخر في وادي حلفا شمالاً. واضطر اللاجئون إلى قطع رحلات طويلة محفوفة بالخطر، معرضين لخطر الوقوع في تبادل إطلاق النار، والنوم في المساجد أو المدارس أو في الشوارع، والاعتماد على مساعدات محدودة، والانتظار لأشهر فقط لتقديم الأوراق دون أي ضمان للحصول على قبول. ومع تضاؤل الطرق القانونية لدخول مصر، لجأ عدد متزايد من السودانيين إلى المهرّبين لعبور الحدود الجنوبية لمصر بشكل غير قانوني، معرضين أنفسهم لخطر الاعتقال أو ما هو أسوأ.

ردّت السلطات المصرية بشكلٍ أكثر صرامة. فوفقاً لتقارير منظمة العفو الدولية ومنصة اللاجئين في مصر، بدأت قوات الأمن في اعتقال وترحيل اللاجئين السودانيين بشكل جماعي. احتُجز رجال ونساء وأطفال في ظروف غير إنسانية، بما في ذلك في إسطبلات للخيول ومراكز احتجاز مؤقتة، غالباً دون إجراءات قانونية أو الحصول على فرصة للتقديم لإجراءات اللجوء. بعض اللاجئين قالوا إنهم احتُجزوا لأكثر من شهرين في قواعد عسكرية ولم يُسمح لهم بالخروج إلا مرة واحدة طوال فترة احتجازهم. ولم تميّز السلطات في حالات كثيرة بين من دخلوا البلاد بطرق غير نظامية ومن يمتلكون وثائق رسمية، إذ حدثت الاعتقالات بغض النظر عن الوضع القانوني.

تتناقض هذه التطورات مع التزامات مصر الدولية. فمصر موقعة على اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين وبروتوكولها لعام 1967، اللذين يحظران إعادة اللاجئين قسراً إلى أماكن قد تتعرض فيها حياتهم للخطر. ومع ذلك، لا تملك مصر نظام لجوء وطني، وتعتمد على المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للتسجيل وتحديد الوضع وتوزيع المساعدات. وتعاني المفوضية من ضغط متزايد، إذ يستغرق التسجيل بين 7 و18 شهراً، وحتى بعد الاعتراف باللاجئ لا يحصل على فوائد تُذكر، فمصر لا توفر للاجئين إمكانية الوصول إلى التعليم أو الخدمات الصحية الأساسية كما أن الحصول على تصاريح عمل يكاد يكون مستحيلاً.

نتيجة لذلك، يعيش معظم اللاجئين السودانيين في مصر في فقر وظروف قانونية هشة. وتعاني المنظمات والمفوضية السامية من نقص حاد في التمويل، حيث يتلقى بعض المستفيدين بين 450 و750 جنيهاً مصرياً شهرياً — أي ما يعادل 15 إلى 25 دولاراً — بينما لا يحصل كثيرون غيرهم على أي دعم. وهذا المبلغ لا يكفي حتى لتغطية إيجار بضعة أيام في القاهرة. ورغم عدم وجود مخيمات لجوء رسمية في مصر — على خلاف العديد من دول إفريقيا — فإن الحياة الحضرية تجلب تحدياتها الخاصة.

حتى الحقوق الأساسية، مثل الحق في العمل القانوني، تظل بعيدة المنال. فحسب القوانين الحالية، على اللاجئين تقديم جواز سفر ساري وإقامة قانونية للحصول على تصريح عمل. لكن العديد من السودانيين فرّوا دون وثائق أو فقدوها. ويمكن أن تستغرق الموافقات الأمنية شهوراً، وفي هذه الأثناء يضطر الكثيرون للعمل في وظائف منخفضة الأجر وغير رسمية، دون حماية من الاستغلال أو سوء المعاملة. يعمل أطباء ومهندسون ومعلمون سابقون الآن كعمّال نظافة أو باعة متجولين بأجور دون الحد الأدنى.

تتحمل النساء والفتيات السودانيات العبء الأكبر، إذ يشكّلن غالبية اللاجئين السودانيين في مصر. وتقدّر المفوضية أن نحو 75% من 1.2 مليون سوداني في مصر هم من النساء والأطفال. كثير منهنّ فررن من العنف الجنسي واسع الانتشار، والذي استخدمته قوات الدعم السريع كسلاح حرب. ومع ذلك، يبقى الحصول على الحماية في مصر أمراً صعباً. تواجه النساء تحرشاً وعنفاً مبنياً على النوع، واستغلالاً في العمل غير الرسمي، وانعداماً لطرق الوصول للحقوق القانونية. تعيش الكثير من الأمهات العازبات — اللواتي تشتتت أسرهن أو بقي أزواجهن في السودان — تحت الضغوط الاقتصادية والخوف الدائم على سلامة أطفالهن في ظل تزايد العداء من المجتمع والسلطات، ويخشين المداهمات والترحيل أو ما هو أسوأ.

وتزيد الأزمة الاقتصادية في مصر الأمور تعقيداً. فقد أدت أزمة خفض قيمة الجنيه عام 2023 إلى ارتفاع حاد في تكلفة المعيشة. وارتفعت أسعار الغذاء والسكن والسلع الأساسية، فيما عملت السلطات على تصوير اللاجئين كعبء اقتصادي — وهي رواية تكررها وسائل إعلامية وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي — مما يغذي خطاب الكراهية ويمهّد لسياسات أكثر تقييداً. ومع ارتفاع البطالة وتدهور الاقتصاد، يصبح وجود اللاجئين شماعة تُعلّق عليها المشاكل الاقتصادية الهيكلية الأعمق.

اللاجئون الذين كانوا يأملون بالبقاء مؤقتاً أصبحوا الآن عالقين في مدن لا يمكنهم تحمل تكاليفها، غير قادرين على العودة إلى ديارهم أو المضي قدماً. يعتمد بعضهم على تحويلات أقارب يعملون في الخليج. ومع ذلك، لا يقف السودانيون موقف الضحية. ففي القاهرة وغيرها من المدن، أنشأوا مدارس مجتمعية ومراكز تدريب مهني وروابط نسائية وشبكات مساعدة غير رسمية. وافتتح البعض مطاعم ومحلات صغيرة تعمل كمراكز تجمع وفرص عمل. وغالباً ما تكون هذه المبادرات أكثر استجابة للاحتياجات الفورية رغم افتقارها للدعم من المنظمات الدولية لكنها تظل محدودة وتواجه مخاطر قانونية.

يواجه اللاجئون السودانيون عقبات إضافية بسبب القوانين والسياسات المصرية الجديدة. ففي أواخر عام 2024، أصدرت مصر قانون لجوء جديد قالت إنه يهدف لمواءمة السياسات مع المعايير الدولية، لكن منظمات حقوقية حذرت من أنه يزيد من مخاطر الاعتقالات والترحيل. فعلياً، يتضمن القانون بنوداً غامضة تتعلق بالأمن القومي تسمح للسلطات بإلغاء وضع اللجوء أو رفضه دون إمكانية للاستئناف، كما يجرّم تقديم المساعدة للاجئين غير الموثقين، مستهدفاً بذلك المنظمات والجماعات المجتمعية التي تغطي الفراغ الذي تتركه الدولة والمنظمات الدولية.

لم يُحسّن الإطار القانوني الجديد واقع اللاجئين، بل جعله أكثر خطورة. فما يزال اللاجئون المسجلون محرومين من دخول المدارس الحكومية، وتم إغلاق المدارس السودانية الابتدائية والثانوية — التي كانت طوق نجاة — على يد السلطات. وأصبح التسجيل في المدارس المصرية يتطلب إقامة رسمية، وهو ما لا يستطيع معظم اللاجئين الحصول عليه. كما أصبح التعليم الجامعي أكثر صعوبة، إذ خُفضت خصومات الرسوم الدراسية للسودانيين من 90% إلى 60% قبل إلغائها بالكامل في معظم الجامعات الحكومية، بينما تضاعفت الرسوم الأساسية ثلاث مرات. أما من وصلوا دون مستندات أو إثبات تعليم سابق فلا يمكنهم مواصلة دراستهم، مما دفع كثيرين للعودة إلى السودان رغم المخاطر، لغياب أي مستقبل في مصر.

لعب الاتحاد الأوروبي دوراً مثيراً للجدل في تشكيل سياسات مصر تجاه اللاجئين. ففي مارس 2024، وقّع ستة قادة من الاتحاد الأوروبي صفقة بقيمة 7.4 مليار يورو مع مصر بهدف منع الهجرة غير النظامية إلى أوروبا. الاتفاق الذي وصف بأنه شراكة استراتيجية لاستقرار المنطقة، يمنح مصر حوافز للحد من وجود اللاجئين. ويلزم الحكومة المصرية بتعزيز مراقبة الحدود، خصوصاً مع ليبيا، المعروفة كنقطة عبور للمهاجرين نحو أوروبا عبر المتوسط.

وأثار هذا النهج — الذي يُعرف بسياسة “تصدير حدود الاتحاد الأوروبي للخارج” — انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية، التي تقول إن الاتحاد الأوروبي يعالج مشكلته على حساب حقوق وسلامة اللاجئين. ورغم الدعم المالي، ما تزال أعداد الفارين عبر ليبيا مرتفعة، مع ازدياد عدد السودانيين بين من يقومون بهذه الرحلات الخطرة. ورغم أنه تكاد لا تخرج قوارب مهاجرين من السواحل المصرية، فإن المصريين مثّلوا قرابة 20% من الواصلين إلى أوروبا عبر المتوسط عام 2022، مما يشير إلى أن حركة الهجرة تتجاوز تأثير الحروب وحدها وتشمل أزمة أوسع في المنطقة.

في أبريل 2024، دعت منظمة مشروع الاحتجاز العالمي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للضغط على مصر لوقف الترحيل، ورفع قيود التأشيرات عن الفارين من الحرب، وضمان الوصول إلى إجراءات لجوء عادلة. وحتى الآن، لم يحدث تقدم يُذكر.

ورغم كل ذلك، تبقى مصر وجهة مفضّلة لكثير من السودانيين. فالبلدان يتشاركان روابط عميقة تاريخية وثقافية ولغوية. العربية هي اللغة الأساسية في البلدين، والإسلام السني هو الدين الغالب. ولدى كثير من السودانيين عائلات في مصر أو خبرة سابقة بالدراسة والعمل هناك، ما يوفر شعوراً بالاستقرار في زمن الفوضى. كما أن قرب مصر الجغرافي يتيح للنازحين البقاء قريبين من وطنهم والحفاظ على أمل العودة والتواصل مع أقاربهم.

إلى الآن، يظل اللاجئون السودانيون في مصر عالقين في واقع صعب، محرومين من المشاركة الكاملة في المجتمع، غير قادرين على العودة إلى الوطن، ولديهم خيارات تتضاءل يوماً بعد يوم. ما لم يحدث تحول في السياسات المحلية والدولية، سيظل مستقبلهم محفوفاً بالتهميش وعدم اليقين والهشاشة. ويرى كثير منهم وجودهم مؤقتاً — مجرد محطة انتظار حتى يعودوا ويعيدوا بناء حياتهم — لكن دون حقوق أو خدمات أو حماية، يبقى حتى هذا الوجود المؤقت مهدّد.

وقد دفع ذلك أكثر من مليون شخص للعودة إلى السودان، خاصة بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية (الجيش السوداني) السيطرة على ولايتي الخرطوم والجزيرة في مارس الماضي، إضافةً إلى أجزاء من ولايات كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع مثل سنار والنيل الأبيض والأزرق. ولا تزال الأوضاع في تلك المناطق شديدة السوء، مع غياب جهود إعادة الإعمار وتدهور الأوضاع الصحية والأمنية وارتفاع تكاليف المعيشة وانعدام فرص العمل. ومع ذلك، أشارت أرقام الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 1.3 مليون سوداني قد عادوا إلى البلاد بين مارس ويوليو 2025، منهم أكثر من 190 ألفاً عادوا من مصر.

أضف تعليق