في ذكرى ثورة أكتوبر ١٩٦٤؛ نقد المجتمع المدني كقشرة حداثية قراءة في هشاشة البنية المدنية في السودان

حاكم عباس

    تُعدّ ثورة أكتوبر 1964 واحدة من أعظم المحطات في التاريخ السياسي الحديث للسودان، إذ شكّلت لحظة فارقة في وعي الشعب وقدرته على التغيير السلمي. فقد اندلعت ضد نظام الفريق إبراهيم عبود، الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1958، بعد سنوات من التضييق على الحريات العامة وتراجع الحياة السياسية. خرجت جموع الشعب — من طلاب وعمال وأطباء ومحامين وموظفين — في مظاهرات حاشدة طالبت بإنهاء الحكم العسكري وعودة الديمقراطية. وبالفعل، نجحت الثورة في تحقيق هدفها وأجبرت النظام العسكري على التنحي، لتكون أول ثورة شعبية سلمية في إفريقيا والعالم العربي تُسقط نظامًا ديكتاتوريًا عبر الحراك المدني

لكن رغم هذا الإنجاز التاريخي، لم تستطع التجربة الديمقراطية التي أعقبت الثورة أن تصمد طويلًا، إذ واجهت قصورًا واضحًا في أداء القوى السياسية والمجتمع المدني، مما مهّد الطريق لانقلاب مايو 1969 بقيادة جعفر نميري. وهنا تكمن الإشكالية: كيف لمجتمع أن ينجز ثورة سلمية عظيمة، ثم يعجز عن حماية مكتسباتها؟ هذا السؤال هو ما يدفعنا إلى تفحّص البنية العميقة للمجتمع السوداني، ومحاولة فهم طبيعة “المدنية” فيه بوصفها قشرة حداثية تخفي تحتها هشاشة بنيوية راسخة

 : في معنى الدولة الحديثة 

تقوم الدولة الحديثة، في أصلها، على التنظيم العقلاني والمؤسسي للسلطة وفق مبادئ القانون والمواطنة والسيادة. هي كيان سياسي يحكم المجتمع على أساس العقل لا العصبية، وعلى القانون لا الولاء الشخصي أو الديني. نشأت هذه الدولة في أوروبا بعد تفكك النظام الإقطاعي والديني، حين حلت الولاءات المدنية محل الولاءات القديمة القائمة على القرابة أو العقيدة أو الإقطاع 

أما في السودان، فإن مسار تشكّل الدولة كان مختلفًا جذريًا. فقد ظلّ خاضعًا منذ بدايات القرن التاسع عشر لسلطة الخديوي محمد علي باشا وأسرته (1821–1885)، وهي فترة مثّلت امتدادًا مباشرًا للنفوذ العثماني في المنطقة. كانت هذه الحقبة التأسيسية هي التي أرست البنى الاقتصادية والاجتماعية التي ستظل تحكم تطور البلاد لعقود طويلة لاحقة 

: البنية الموروثة ونمط الإنتاج الآسيوي

 لفهم طبيعة تلك البنى، يمكن استدعاء تحليل كارل ماركس لما سماه نمط الإنتاج الآسيوي، وهو النمط الذي تهيمن فيه الدولة المركزية على الفائض الاقتصادي وتتحكم في وسائل الإنتاج، على عكس النظام الإقطاعي الأوروبي حيث كانت الملكية الخاصة أوسع انتشارًا. وفي هذا السياق، مثّلت الدولة العثمانية — ومن بعدها الخديوية — نموذجًا واضحًا لما يسميه بعض المفكرين “نمط الإنتاج التابع” أو “البيروقراطي الآسيوي”، حيث تحوّل جهاز الدولة إلى مركز التراكم الاقتصادي، مما عطّل نشوء برجوازية وطنية مستقلة، وأوقف عملية التحول نحو الرأسمالية والتمدين والتصنيع. ومن هنا يمكن القول إن السودان ورث بنية اقتصادية–اجتماعية أعاقت نشوء الطبقات الحديثة، وبالتالي أخّرت بروز مفاهيم المواطنة والدولة الحديثة والمجتمع المدني بمعناها الحقيقي

 من المهدية إلى الاستعمار الثنائي:

عندما سقط الحكم الخديوي عام 1885 على يد الثورة المهدية، ظنّ البعض أن صفحة جديدة قد فُتحت في تاريخ السودان. غير أن المهدية، رغم جذورها الفلاحية والشعبية، ورثت ذات البنية المركزية القديمة ولم تنجح في تفكيكها. فقد ظلت علاقات الإنتاج والتوزيع خاضعة لمنطق الدولة المركزية المهيمنة، ما جعلها تعيد إنتاج ذات النمط الاقتصادي–الاجتماعي الذي ثارت عليه في الأصل. ومع سقوطها عام 1898، دخل السودان في مرحلة الحكم الثنائي (البريطاني–المصري) التي كرّست هذا الإرث بدل تجاوزه، إذ حافظ المستعمر على العلاقات الإقطاعية القديمة وأعاد تشكيلها في صورة جديدة عبر الطائفية الدينية والوسائط التقليدية التي ضمن بها الولاء والاستقرار

 أكتوبر 1964 وبنية المجتمع المدني 

حين جاءت ثورة أكتوبر بعد ثماني سنوات فقط من الاستقلال، كانت هذه البنى ما تزال فاعلة ومسيطرة. فقد نشأ ما يُسمى بالمجتمع المدني — من نقابات واتحادات وأحزاب — على أرضية اجتماعية واقتصادية ما قبل-رأسمالية، متشابكة مع الولاءات الطائفية والعشائرية والدينية. وبالتالي لم يكن المجتمع المدني “مستقلًا” بالمعنى الحديث، بل ظل امتدادًا ناعمًا للطبقة السياسية–الطائفية التي ورثت دولة ما بعد الاستعمار

لذلك لم يكن غريبًا أن تعجز القوى المدنية الحديثة عن حماية مكتسبات ثورة أكتوبر، إذ اصطدمت بصخرة البنية التقليدية العميقة التي أعادت إنتاج علاقات السلطة القديمة. فالمجتمع المدني، في نهاية الأمر، هو انعكاس للبنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ولا يمكن أن يتجاوزها إلا إذا تغيّرت هي ذاتها. 

المجتمع المدني كأداة تبعية

 في المجتمعات التابعة مثل السودان، غالبًا ما يُعاد إنتاج مفهوم المجتمع المدني في إطار من التمويل الخارجي والتوجيه الأيديولوجي، فيتحول من أداة تحرر إلى أداة اختراق. فبدل أن يكون رافعة للسيادة الوطنية، يصبح وسيلة لتكريس التبعية بأشكال جديدة. وهذا ما عبّر عنه المفكر الماركسي موفق محادين بقوله: “المجتمع المدني في العالم الثالث لا يقف على قاعدة طبقية وطنية مستقلة، بل هو امتداد ناعم للمجتمع الاستعماري الجديد.” 

إن هذه العبارة تختزل جوهر الأزمة: هشاشة البنية المدنية في بلدان لم تستكمل بعد مشروع الدولة الحديثة، ولم تحقّق استقلالها الاقتصادي الحقيقي.

 خاتمة: التحرر شرط التطور 

يمكن القول، في ضوء ما سبق، إن ثورة أكتوبر مثلت ذروة الوعي الوطني الحديث في السودان، لكنها أيضًا كشفت حدود هذا الوعي حين يواجه بنى اقتصادية–اجتماعية ما قبل حداثية. لقد أثبتت التجربة أن التطور بدون تحرر أمر مستحيل، لأن: 

١.القوة الاقتصادية تظل محتكرة بيد أقلية مستغِلة

  ٢.المجتمع يبقى مقسمًا على أسس طائفية وجهوية تمنع التقدم الجماعي

٣.الوعي الاجتماعي والسياسي يظل محدودًا، فيعجز عن بناء مؤسسات حقيقية للتطور

 إن التحرر هو شرط التطور الحقيقي، وليس نتيجته فقط. فمن دون تفكيك البنى التقليدية الموروثة، سيبقى المجتمع المدني في السودان قشرة حداثية تغطي هشاشة عميقة لم تُعالج بعد

عن المؤلف

حاكم عباس مهندس سوداني مقيم في المملكة المتحدة

أضف تعليق