
بينما يستمر النزاع المسلح في السودان منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يبرز على الأرض نموذج إنساني فريد من نوعه يقوده المواطنون أنفسهم، ظهر حراك شعبي يقدم إغاثة شاملة استثنائية تسد الفراغ الناتج عن انهيار الدولة وشلل الإغاثة الدولية. غرف الطوارئ والتي باتت تمثل قلب ثورة العمل الإنساني النابض كنموذج يستحق الإحتفاء في تاريخ السودان الحديث.
تأسست هذه الغرف على يد لجان المقاومة ولجان الأحياء نفسها التي لعبت دوراً محورياً في الإطاحة بالرئيس عمر البشير خلال ثورة السودان عام 2019، وتمثل هذه الغرف نموذجًا لا مركزيًا مدفوعًا بالمتطوعين يشكل شريان حياة لملايين المدنيين السودانيين المحاصرين في الحرب. يعمل فيها آلاف الشابات والشباب وفي ظل ظروف استثنائية بالغة التعقيد والخطورة. لم تقتصر مساهمات غرف الطوارئ على توفير المياه النظيفة والغذاء والرعاية الصحية والتعليم وخدمات الإجلاء لأكثر من 11.5 مليون شخص حتى ديسمبر 2024 رغم غياب أي تمويل منتظم من المنظمات الدولية في بدايات عملها، بل أعادت أيضًا تعريف ما يمكن بل ربما ايضاً ما يجب أن تكون عليه الإغاثة الإنسانية.
في حين أن الاستجابات الإنسانية التقليدية تظل مقيدة باللوجستيات والبيروقراطية والمخاوف الأمنية، تحركت غرف الطوارئ بسرعة وفعالية بالاعتماد على التقاليد السودانية العريقة في التضامن المجتمعي، المعروفة محليًا باسم “النفير” – وهي دعوة جماعية للتعبئة في أوقات الأزمات. ومن خلال هيكل لا مركزي يتجاوز الخطوط العرقية والجندرية والسياسية، أنشأت هذه الشبكات التي يقودها الشباب نموذجًا مرنًا يركز على المجتمع ويتجاوز العقبات التي غالبًا ما تعيق عمل المنظمات الدولية.
لكن العمل في منطقة حرب لم يكن دون ثمن مأساوي. فكثيراً ما يتم اعتقال عدد كبير من متطوعي غرف الطوارئ، واختطافهم، وتعذيبهم، واغتصابهم، وقتلهم. ويتم هذا الاستهداف من طرفي النزاع. ففي عام 2023 وحده، قُتل ثلاثة أعضاء من متطوعي غرف الطوارئ أثناء إجلاء مدنيين في منطقة الفتيحاب ولقي اثنان آخران مصرعهما في سوق نيفاشا.
ورغم هذه المخاطر، لا يزال نحو 10,000 متطوع من غرف الطوارئ يواصلون عملهم في جميع ولايات السودان الثماني عشرة. وفي بعض المناطق يمثلون شبكة الإغاثة الوحيدة العاملة، حيث يدعمون المستشفيات، ويديرون المطابخ المركزية ويوزعون الغذاء ويوفرون المياه، ويقدمون الدعم النفسي للناجيات والناجين من العنف، بما في ذلك العنف الجنسي المرتبط بمناطق النزاع.
ما يُميز غرف الطوارئ ليس فقط شجاعتها وفعاليتها، بل رؤيتها المناهضة للإرث الاستعماري في العمل الإنساني. فهي تجسيد عملي لما طالما نادى به كثيرون في مجال التنمية: نموذج إنساني مفكك للاستعمار، حيث تكون القرارات والتنفيذ بأيدي المجتمعات المحلية ومن أجل مصلحتها، لا الوكالات الأجنبية. فعلى عكس المنظمات غير الحكومية الكبرى ووكالات الأمم المتحدة ذات الهياكل البيروقراطية الباهظة والاعتماد على خبراء أجانب، تعتمد هذه الغرف على المعرفة المحلية، والروابط المجتمعية والعمل التطوعي غير المدفوع، وروابط مباشرة مع المجتمعات التي تخدمها. ولعدة أشهر اعتمدت فقط على تمويل من المواطنين السودانيين والشتات. وفي وقت لاحق، بدأت الوكالات الدولية في تقديم المساعدات المادية، اعترافًا منها أن غرف الطوارئ هي الجهة الوحيدة القادرة على إيصال المساعدات في كثير من المناطق.
يقول جون برندرغاست، المدير السابق لمجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون أفريقيا:
“غرف الطوارئ تُجسد نموذج الإغاثة الحقيقي: لا نفقات، لا موظفين دوليين، فقط أبناء وبنات البلد ينقذون مجتمعاتهم.”
حتى في أنظمة الإغاثة التقليدية، يقوم السكان المحليون بمعظم العمل… غرف الطوارئ هي التعبير الأصدق عن هذا المبدأ – لا نفقات إدارية، لا موظفين أجانب. فقط أناس محليون ينقذون أرواح مجتمعاتهم”.
غرف الطوارئ ليست مجرد فاعلين إنسانيين – بل مهندسون مبكرون لسودان جديد. ففي بلد “تخلّت فيه الدولة عن مسؤولياتها بنسبة 100%”، تُثبت هذه الغرف على من يمكن الاعتماد في رعاية المصلحة العام. من إيواء العائلات النازحة إلى ضمان إيصال الدواء والتعليم، تبني هذه المجموعات أساسًا لمجتمع مدني سوداني مستقبلي، يرتكز على الرحمة والتضامن والمبادئ الديمقراطية والإرادة الشعبية.
ويضيف برندرغاست:
“هذه خطوة مهمة نحو بناء أساسيات الحكم… أنت تقلب هيكل الحكم رأسًا على عقب، وتعود إلى جوهر ما يجب أن تكون عليه الحوكمة.”
ما تقوم به غرف الطوارئ لا يقتصر على توفير الخدمات، بل هو استعادة للكرامة والوكالة والقدرة على التنظيم الذاتي في وجه الحرب والتهميش من المجتمع الدولي والتخلي عن واجباته. في عالم تتشابك فيه المساعدات الإنسانية مع المصالح السياسية والجغرافيا والبيروقراطية والاعتبارات الدعائية، تُقدم تجربة السودان رؤية بديلة تستند على التمكين المحلي الجذري وسياسة عابرة للحدود: حيث يُعيد السكان المحليون تعريف معنى العون، والمساعدة، والعمل الإنساني
وبذلك، قد لا تنقذ غرف الطوارئ الأمة السودانية من محنتها فحسب – بل قد تغيّر مستقبل الإغاثة العالمية نفسها كفعل سياسي وثقافي.
وقد نال هذا النهج، إلى جانب الالتزام العالي بالمخاطرة على الأرض، اعترافًا دوليًا. فرغم انعدام الموارد، نالت غرف الطوارئ إشادة دولية متزايدة مثل اعتراف الاتحاد الأوروبي بجهودهم، وفي عام 2025 رشّحهم معهد أبحاث السلام في أوسلو لجائزة نوبل للسلام للعام الثاني على التوالي. وفي العام نفسه، حصلوا على جائزتين مرموقتين جائزة الحق في العيش وجائزة رافتو تقديرًا لـ”بناء نموذج يجسد الصمود للمساعدة التفاعلية”.
مع اقتراب السودان من حافة الانهيار الكامل، تظل غرف الطوارئ رمزًا للصمود الشعبي والإبداع المجتمعي، ودليلًا حيًا على قدرة الشعوب على ابتكار حلول تتجاوز المؤسسات التقليدية، وتؤسس لمستقبل جديد قائم على الشراكة، والعدالة، والتضامن.
وفي هذا السياق، تخصص الغازيتة مساحة واسعة لتسليط الضوء على هذه الجهود الجبّارة للمواطنين ولغرف الطوارئ على الأرض، وعلى مبادراتهم الشعبية الإبداعية في جمع التبرعات واستمرار هذا العمل الحيوي في أشد الأوقات صعوبة.










أضف تعليق