الإسلاميون و ثورة أكتوبر ١٩٦٤: دقنك حمّست جلدك خَرش ما فيه

عبد الله علي إبراهيم

ندوة أم لوتري سياسي؟

أعود هنا لذائعة روجها الإخوان المسلمون من أن ثورة أكتوبر (21-10-1964) هي بنت الندوة التي كان لهم فضل اقتراح قيامها على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم. ولولاها لما كانت ثورة ولا يحزنون. وبينتنا على هذه العقيدة الإخوانية أنهم اتهمونا في الجبهة الديمقراطية وفي المؤتمر الديمقراطي الاشتراكي (د. حسن عابدين ورهطه) بالجبن لأنه كانت لنا اقتراحات أخرى لما يجب عمله. ولم تكن أقل شجاعة من الندوة. ولمّا علق الإخوان الثورة على ندوتهم جعلوا الثورة نوعاً من اللوتري السياسي: أعقد ندوة وستضرب. ولاحظ السر بابو بصفاء أن الإخوان حاولوا هذه اللوتري السياسي في ما أسموه “ثورة شعبان” في 1974 ضد نظام الرئيس نميري. فأدخلوا بطاقة اللوتري بعقد ندوتهم المعروفة بندوة الإسلامي أحمد عثمان، وانتظروا ضربة الحظ. ولم تندلع الثورة المرتجاة وإن بقيت حركة شعبان معلماً مهماً في مقاومة الاستبداد. وأقول عرضاً حتى نبينه في وقته إنه ما أضر بتاريخ ثورة أكتوبر إلا من أرادوا النقل الأعمى عنها. فما كل بركة ولد. ومن ضروب سوء فهم الثورة أيضاً من حاولوا استعادتها أخنق فطس مثل انقلاب مايو 1969

ساءني جداً ما روجه الإخوان المسلمون وخصوم آخرون بآخرة بأننا في الجبهة الديمقراطية عارضنا ثورة أكتوبر 1964 تقية لخوفنا من نظام الفريق عبود. وسدروا في غي هذه الضلالة عزة بأنهم من كان من وراء اقتراح الندوة للجمعية العمومية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم في حين كان لنا وغيرنا اقتراح آخر بتسيير مظاهرة عظمى نحشد لها قوى الطلاب بالعاصمة. لم يكن الخلاف بين بواسل الإخوان ومن لانت ركبهم من الشيوعيين وحلفائهم. وسيرى القارئ قريباً، متى كان الأمر أمر “شداعة (شجاعة) قلبية”، كما كان يقول عمي، كيف أن غالب شهداء الندوة الإخوانية وجرحاها كانوا من الجبهة الديمقراطية لا من الاتجاه الإسلامي

لم يكن خلافنا والإسلاميين في “ضرب السوط مو كدي خلي الجعلي اليجي”. كان مدار الأمر مجرد تباين في التكتيك حول أجدى السبل لمقاومة الدكتاتورية العسكرية في الزمان والمكان. وهو نزاع حول التكتيك بين أكفاء في المقاومة (لا بين بواسل ورعاديد) حسمته الجمعية العمومية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بإجراء ديمقراطي معتمد في أداء الاتحاد كما سنرى.
ومن أكثر ناشري ذائعة نقصنا في الشجاعة المهندس أنور الهادي سكرتير الثقافة لاتحاد 1964 والذي وقع عليه الإشراف على ندوة مناقشة مسألة الجنوب ليلة 21 أكتوبر 1964 بداخليات البركس بالجامعة. ووجدته على مرتين يدبج هذه الذائعة في مقابلات مع الصحف في 2015 و2016. وكان لقاء أنور في 2016 مع النور أحمد النور رئيس تحرير “الصيحة” (22 أكتوبر 2016). وأنور مستحق لروايته عن هذه الندوة لأنه استمات على فكرة الندوة حتى حين تلجلج تنظيمه وهو الاتجاه الإسلامي ذاته كما سنرى. وودت لو انتهز سانحة الحوارات للقسط بزملائه منا في اليسار بعد أكثر من نصف قرن على الواقعة. ولكن أنور لا ينسى ولا يغفر. ومر عليه هذا الزمان الطويل وهو “حاقص” على مأخذ لنا لا بينة عليه

قال أنور للصيحة إن المعروف من ثورة أكتوبر أن لجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم أسقطت اقتراح قيام الندوة (4 إسلاميون، 3 جبهة ديمقراطية، 3 لكل من الفكر الحر (المهندس عمر صديق وشركاه ومنهم غازي سليمان) والمؤتمر الديمقراطي الاشتراكي (الدكتور حسن عابدين وشركاه ومنهم محمد نوري الأمين). ثم طُرح الاقتراح في المجلس الأربعين للاتحاد وسقطت أيضاً. ثم طُرحت على الجمعية العمومية وسقطت. ولما يئس أنور (وتنظيمه وهو الاتجاه الإسلامي) من أن ينصر الاتحاد مقترح الندوة خطط لقيامها على أنها ندوة لجمعية ثقافية. ووافق “المكتب السياسي” (للإخوان؟) ومكتب الاتجاه الإسلامي على ذلك. ولم يمر يومان وقامت الندوة. والمفهوم من كلام أنور هذا أن الندوة تمت في خارج مظلة الاتحاد غير أن أنور اختار المتحدثين من بين أعضاء مجلس الاتحاد، أو ما سماهم أعضاء المكتب الثقافي للاتحاد (ويضم أعضاء من المجلس الأربعيني).
وقال أنور إنه اجتمع بلجنة الاتحاد في اليوم الثاني بعد مقتل القرشي. ووصف نفسه بأنه كان رئيسها، أي صار المسؤول عن كل شيء في ذلك الجو السياسي المحتقن على أنه كان سكرتيراً للثقافة لا غير. وقال إن هذا ثابت في محضر تلك الجلسة الذي أخفاه الشيخ رحمة الله (الجبهة الديمقراطية) سكرتير الاتحاد. ثم ذكر أن فاروق أبو عيسى قد تعرض للضرب حين ذهب إلى المعهد الفني ليلة المتاريس ليعبئهم. وزاد في العزة بحركته أن الذي بدأ الهتاف بعد تشييع القرشي كان الدكتور الإسلامي حسن عمر المحاضر بكلية القانون بالجامعة. وهكذا قَسَم الله للإخوان الشجاعة وقَسم لغيرهم الذلة والضرب من خلاف.
نرد أولاً على أقاويل أنور عن ليلة المتاريس ثم نعرج على مسألة الندوة. فلم يرد في سيرة ليلة المتاريس أن المعهد الفني كان منبراً للتعبئة للدفاع عن الثورة. وكل ما نعرفه عنه أن طلابه كان يحتفلون في تلك الليلة بثورة أكتوبر حين خرج من وسطهم نبأ تحرك الجيش المضاد للثورة. كما تواترت الكتابات أخيراً عن المحامي الذي كان أول من هتف ضد نظام عبود بعد التشييع بعد أن كاد الجمع ينفض بعد كلمة للدكتور الترابي للناس أن يفعلوا ذلك. ولم يرد للدكتور حسن عمر ذكر في هذا السياق. وقد تحرى الأستاذ كمال الجزولي سيرة هذا المحامي قبل سنة أو نحوها. ولم أجد كلمته بين أوراقي وأنا أكتب هذه المقالة
ثم جاء أنور في حديثه للجريدة إلى عيبنا في اليسار وجبننا. فقال إن الحزب الشيوعي كان يسعى للمشاركة في الحكم مع نظام 17 نوفمبر ولذلك كان ساعياً لإجهاض الندوة. وزاد بأن “الشيوعيين عملوا وضحوا خلال فترة عبود الباكرة” ولكن عندما تضرروا غيروا موقفهم ودي موازنات حزبية بعرفوها ووصلوا إلى أن يتعاملوا مع النظام. ولكن الشيوعيين يقولون معارضة من الداخل وهي غير مقبولة لأن النظام لن يقبل بك دون أن تعمل معه”
وبدا لي أن أنور تذكر من أكتوبر شيئاً وغابت عنه أشياء كثيرة. وسنستعين بكتاب أخ مسلم له هو الأستاذ أحمد محمد شاموق عنوانه “الثورة الظافرة: يوماً بيوم” (1968) لبيان عوار ذاكرة أنور
ونترك ذلك لحلقة قادمة

لكن تغالط شاموق، بتغالط!


كنت أظن أن أنور الهادي عبد الرحمن، السكرتير الثقافي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي نظم ندوة الأربعاء 21 أكتوبر 1964، قد اكتفي، بعد مرور أكثر من 50 عاماً عليها، من احتكار البطولة لتنظيمه، الاتجاه الإسلامي، في ملابسات انعقاد تلك الندوة. فوجدته على مرتين يحدث الصحف عن ذكرياته فيتهم اليساريين بممالأة نظام عبود لمجرد أن كان لنا اقتراح مضاد لاقتراح الندوة. وهو تسيير مظاهرة طلابية جامعة احتجاًجاً على اعتقال اللجنة التنفيذية للاتحاد. بل وجدت عدوى البطولة استبدت به فنسب لنفسه كما رأينا قيادة اللجنة التنفيذية بعد مصرع الشهيد القرشي في حين كان رئيس اللجنة زميلة الدكتور ربيع حسن أحمد.
جاء أنور مع ذلك بتاريخ مرتبك لتلك الأيام أرغب في تصحيحه ناظراً إلى كتاب أحمد محمد شاموق زميله في الاتجاه الإسلامي المعنون “الثورة الظافرة: يوماً بيوم” (1968). وسنصحح أغلاط أنور الآتية:
قوله إن تنظيم ندوة 21 أكتوبر كان قد تم خارج نطاق الاتحاد (اللجنة التنفيذية، المجلس، الجمعية العمومية) وايحائه كأنها من عمل جمعية ثقافية لإسلاميّ الجامعة
تجاهله حقيقة أن الإسلاميين لم يكونوا على خطة الندوة طوال الوقت. وجنحوا مرات لبدائل لها. وهذا خلاف تصوير أنور لهم مستميتين على الندوة كأنهم عرفوا سرها الثوري. وأن الندوة كانت خياراً من خيارات جرى تداولها في أوساط الطلاب ومعسكراتهم السياسة في أعقاب اعتقال لجنة الاتحاد التنفيذية لا تقل أي منها في روح الصدام مع النظام وعزائمه، مما يبطل تكهن أنور بجبنها وتحميلها ما لا يجوز في شرع السياسة.
جاء عند شاموق أنه بتكوين اللجنة البديلة للجنة الاتحاد المعتقلة (برئاسة الإسلامي ربيع حسن أحمد وسكرتارية الديمقراطي الشيخ رحمة الله) تضاربت الاقتراحات في ما ينبغي عمله بمثابة الرد على النظام. وكان رأي الاتجاه الإسلامي استمرار الندوات والتظاهر. أما الجبهة الديمقراطية فحذرت من القيام بخطوة بمعزل عن بقية الطلاب في الجامعات والمعاهد الأخرى. واقترحت الاتصال بهم تجاه عمل متضامن ضد النظام. أما المؤتمر الديمقراطي فرفض اقتراحيّ الإضراب والمظاهرة وقصر دور الطلبة على توعية الشعب. واستبعد الجميع الدخول في إضراب ستغلق بعده الجامعة (ص 114). وحدث في الأثناء تطور في موقف الإسلاميين من الندوة. فاجتمع مكتبهم السياسي وأعاد النظر في مقترح استمرار الندوات. ووصف شاموق الاجتماع بالاضطراب بقرينة أنه قرر رفع الأمر لجهة أعلى منه هي المكتب التنفيذي للإخوان بتوصية ألا تستمر الندوات تفادياً لصدام جديد مع النظام وآثار خسائر الصدام الأخير (إضراب 5 ديسمبر 1963 لاستقلال الجامعة) ما تزال ماثلة. فمن رأيهم كان أن العزلة ضربت الطلاب. فما تجاوب الشعب وما تنازل العساكر
وأخذ اجتماع الإسلاميين علماً بأن مدير الجامعة قد وعد بالمحافظة على استقلال الجامعة. فقرر أن من حقه أن يعطيه الطلاب الفرصة ليدبّر حاله. وكان من دواعي هذا التمهل خشية قيادة الإسلاميين إقدام الحكومة على عزل المدير وتعيين ضابط كبير من الجيش في مكانه (116). ومن بين من فارق رهطه في هذا الشأن كان الأستاذ أنور الذي تمسك بقيام الندوة دون غيره. ونجح في حمل المكتب التنفيذي لخطة عقد الندوة. ولما اجتمعت اللجنة التنفيذية للاتحاد تداولت مقترحاً بمظاهرة رفضها المؤتمر الديمقراطي تمشياً مع رأيه في تجميد النشاط السياسي والالتفات لتوعية الشعب. ولكن جرى إقناع عضويّ المؤتمر بوجاهة الاقتراح ليخرج قرار المظاهرة بالإجماع مما هو من تقاليد الاتحاد ضماناً لفاعلية الخطوة. ثم تبنى الاجتماع وجوب الاتصال بالمعهد العلمي (الكلية الإسلامية) والمعهد الفني وبعث بمناديب منه للاتصال بهم (117)
وكانت جمعيات الاتحاد الثقافية من جانب آخر تضغط على اللجنة التنفيذية لاستمرار قيام الندوات عن مشكلة الجنوب (120). فقرر الاتحاد أن يتبنى الندوات كمسؤولية قيادية. وساد جو ترقب فيه الطلاب قرار الاتحاد رداً على اعتقال اللجنة. وكان قرار اللجنة هو التظاهر ولكنه لم يعلنه للطلاب للسرية. ولكن الطلاب ظنوا الظنون باللجنة لصمتها عما ينبغي فعله تجاه استفزاز الحكومة. و هاجموها ووصفوها بالجبن خوفاً من مصير اللجنة المعتقلة. ولإحتواء ذلك الجو السلبي كلفت اللجنة الرئيس بقراءة خطاب منها في تجمع للطلاب بمركز الجامعة الرئيس (121) بنسخ منه لكل من مجمع الطب وشمبات (122)
ولم ترد في خطاب اللجنة أيضاً الخطوة المقررة من إضراب أو تظاهرة أو ندوة. فران وجوم على الطلاب. وفي ملابسات ردة الفعل على خطاب اللجنة رمى عمر الصديق، من الطلاب الأحرار والمكلف من الاتحاد بمخاطبة طلاب الطب، بخطاب اللجنة وشن هجوماً كاسحاً على لجنته نفسها مما أثار خلافات طوتها للجنة خوف الفرقة (123-124). ووقف الطلاب الأحرار بالنتيجة مع قيام الندوة قبل أي خطوة أخرى (لا مظاهرة تعرقلها). وعارضت الجبهة الديمقراطية والمؤتمر الديمقراطي قيام الندوة (124). فسقط اقتراح الندوة في اللجنة (125). وأحزن ذلك الإسلاميين. وربما أوحوا لجماعة الفكر الإسلامي بتقديم طلب إقامة ندوة رفضها الاتحاد. ولكن الجمعية استمرت في التحضير لها واتصلت بمحمد أحمد محجوب والصادق المهدي وحسن الترابي ليكونوا المتحدثين فيها (126). واجتمع المكتب التنفيذي للإخوان. وكان رأيهم أن قيام ندوة في الثلاثاء 20 أكتوبر استعجال (127)
واتفق للمكتب الإخواني تكليف أنور الهادي ليخطر اللجنة التنفيذية للاتحاد مجرد إخطار بأن مكتبه، مكتب الثقافة التابع للجنة التنفيذية، سينظم ندوة عن الجنوب مساء الأربعاء 21 أكتوبر. وإثر ذلك اجتمعت اللجنة التنفيذية في جو سياسي مفعم بالخصومة. وقدم أنور اقتراحه بقيام الندوة. وثار جدل. وانتهى بتصويت حول الندوة تعادلت فيه الأصوات. فكان الإسلاميون والأحرار في جهة والديمقراطيون والمؤتمر الديمقراطي في الجهة الأخرى (128-129). وبسبب هذا التعادل قررت اللجنة أن تعرض الأمر على الجمعية العمومية. ووضِعت الجمعية أمام اقتراحين: انعقاد الندوة كما اتفق للإسلاميين والأحرار أم قيام مظاهرة في اقتراح الديمقراطيين والمؤتمر. وفاز اقتراح تقديم الندوة على المظاهرة. وكانت حجة الديمقراطيين ضد الندوة أنها ستجري في موقع معزول عن قوى الشعب الأخرى ما يجعلها صداماً مع الشرطة لا أكثر. وجرى التصويت في جمعية الاتحاد العمومية وفاز اقتراح الندوة بفارق مائة صوت في العد النهائي للأصوات الراجحة (138)


استغرب لأنور كيف جاز له ابتذال تلك المساعي السياسية باجتهاداتها المختلفة لمواجهة الديكتاتورية، الدائرة في سياق ديمقراطي للشورى في دوائر الاتحاد من لجنته التنفيذية، فمجلسه، فجمعيته العمومية، ليجعل منها حكاية ساذجة عن الشجاعة والجبن. وسيرى القارئ كيف اقترح الإخوان الندوة وكيف عطرها اليساريون بالدم. فليس من شهيد أو جريح “قهر الظلم ومات” في ذلك اليوم إلا منا معشر اليساريين. وماين منو؟ الله أكبر!
ونعرض في المرة القادمة لشهادات للشيوعيين والديمقراطيين ممن كانوا وقود الندوة التي اقترحها اليمين وأشعلها اليسار . . . واستشهد

ندوتكم، لكن من جعلتم متحدثها الأول؟

من رأي الأستاذ أنور الهادي، السكرتير الثقافي للجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم خلال ثورة أكتوبر 1964، في ذكرياته للصحف عند كل ذكرى للثورة، أن الشيوعيين عارضوا اقتراح الندوة المعروفة في مساء 21 أكتوبر 1964 لأنهم كانوا قد فتروا من نضال عبود، وجنحوا إلى مهادنة النظام. ولا أدري كيف توصل أنور إلى هذه النتيجة عن جبننا أو تقاعسنا ونحن من اقترح مظاهرة حاشدة في الشارع؟ بل كان المؤتمر الديمقراطي الاشتراكي بيننا لا يرى أن تقوم ندوة ولا تنعقد مظاهرة لينشغل الطلاب بتربية الشعب في مدارج النضال. بل، مرة أخرى، كان قيام الندوة موضع خلاف وأخذ ورد كثير في أروقة الإسلاميين أنفسهم كما نقل عنهم شاموق في كتابه الباكر عن ثورة أكتوبر “الثورة الظافرة: يوماً بيوم” (1968) مما عرضنا له في الكلمة الماضية. ولم يكن اقتراحنا بالمظاهرة مُسببا فحسب، بل كان معروضاً أمام الطلاب للتصويت له أو عليه


ما لا يعرض له أنور الهادي مطلقاً هو من “حرّر” الندوة، أي جعلها ما انتهت إليه من صراع مع الشرطة ومقتل القرشي وبابكر حسن عبد الحفيظ وجرح 22 طالباً؟ فلم يكن للاتحاد خطة مواجهة مع الشرطة. ولا أعتقد أن كان للاتجاه الإسلامي، سيد الندوة السحرية، مثل تلك الخطة. فمن كان وقود تلك المواجهة؟ سأناقش ببينة في هذه المقال أن عناصر الجبهة الديمقراطية في داخليات البركس هي التي كانت رأس السهم في هذه المواجهة. وربما فعلوها بغير توجيه من تنظيم، بل حرارة قلب ساكت. فلا أذكر توجيهاً من الجبهة الديمقراطية وقتها بالمواجهة


وقبل أن أخوض في شهادات بسالة رفاقي في الجبهة الديمقراطية في المواجهة مع الشرطة أرجع بكم إلى لحظة بدء الندوة نفسها وتكوين المتحدثين. فمَثّل الجبهة الديمقراطية (الجبانة في رأي أنور الهادي) على المنصة اثنان: هما العبد الضعيف، مدوناً للندوة، والمرحوم بابكر الحاج متحدثاً. وكان للاتجاه الإسلامي ممثلان مثلنا تماماً هما أنور الهادي، مقدم الندوة، والمتحدث عنهم الذي اعتذر عن غيبة اسمه عني وأنا أكتب. وهذا إما تعادل في الشجاعة أو تعادل في الجبن. وكان ذلك بالحق تفوق لنا في الشجاعة والالتزام. فكيف لجبان يتستر خلف التظاهرة ليتفادى غشيان وغي الندوة أن يقبل بالجلوس في منصة ندوة له رأي سلبي في نفعها للنضال؟ فهذه شجاعة أخرى لأنها شجاعة التنزل عند رأي الجماعة الذي لا تشقى البلاد به. وجاء على لسان أنور الهادي ما فهمت أن هناك من عرض عليهم الحديث في الندوة فترددوا. واضطر إلى إغراء أحدهم بأن الدور، متى قبل وضع اسمه ضمن المتحدثين، لن يحصله لأن الندوة لن تدوم حتى يلحق بنمرته. وخطر لي سؤال بعد قراءة هذه العبارة الغامضة من أنور الهادي: هل لهذا وضع بابكر الحاج، مندوب الجبهة الديمقراطية، كأول المتحدثين ليأكل ناره؟

انعقدت الندوة أمام داخلية عطبرة لتعذر انعقادها في دار اتحاد الطلاب التي سدت الحكومة أبوابها، أو في ميدان أفسح لأن الحكومة أغرقت الميادين بالماء في غير موسم. وكانت “عطبرة” “والقاش” من الداخليات الجديدة الرشيقة العالية. وقد بنوها من الساس خلال عام 1960-1961 وهو أول سنيّ بالجامعة. وأزعجنا من البناء كرير كراكاته ومندلة ندالاته وغبار وعفار رابط عند سماء داخلياتنا. ولكن كنت ضمن أول من سكن داخلية القاش. واستمتعت بفوح المبنى الجديد وملمسه.
اتخذت موقعي على المنصة بجنب رفيقنا بابكر الحاج بابكر الذي هو من قدواب بربر. وكان زعيم الجبهة الديمقراطية ورأس قائمة مرشحيها للاتحاد. وهو من شيوعيّ أروما الذين تربوا على يد الجزولي سعيد سكرتير الحزب الشيوعي بمنطقة القاش بشرق السودان في الخمسينات. وتزوج وما يزال طالباً وسمى بكره “قاسم” للقدوة الحسنة. ولم أر رجلاً في فضله وذكائه ورباطة جأشه وسداد عبارته. وسعدت بزمالته وحلو معشره أعوام 1963-1964 التي أوقفتنا فيها الجامعة لعام دراسي ضمن آخرين في اتحاد الطلاب لمظاهرة تفجرت خلال تخريج الطلاب في 1963 وفي حضور مدراء الجامعات الأفريقية. وعملنا مدرسين في المدراس الأهلية. أنا في الجمهورية بأمدرمان بحي الصقور عند مقابر حمد النيل. وهو بجهة الخرطوم 3. ولم نكن لنفترق. رحمه الله وبارك في ذريته. الزين الرصين الرزين


فرشت كراستي بعد افتتاح أنور للندوة. وكان أول المتحدثين رفيقنا بابكر الحاج. وبدأت في تدوين منطوقه. ولم يستمر طويلاً. فداهمنا البوليس يطلب منا أن نتفرق. وكان هناك من بين أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد، وربما أنور الهادي نفسه، من طلب من الطلاب التفرق بانتظام. طويت أوراق محضر الندوة التي عوجلت، وأخذته متجهاً نحو داخليتي عبر بوابة البركس. وحَذِرت، حذر من طبع الشيوعيين، أن أقع في القبضة قبل بلوغي مكاني فدخلت غرفة بداخلية ما والتمست من ساكنيها أن يحتفظوا بالوقائع القتيلة حتى ينجلي الموقف. وخرجت. ولم استدرك أحداث ما وقع بعد الندوة إلا في مستشفى الخرطوم ومشرحتها حين تواترت أنباء عن ضحايا المواجهة. ولا زال هذا المحضر يلوح لي كلما عدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم. فهو الأثر المكتوب من ندوة تحدث فيها الرصاص فصرع الحضور وأدماهم


ولكن يبدو أن مزاج داخليات الجيش (البركس)، التي انعقدت الندوة في حوزتها، كان خلاف مزاجنا نحن ساكني داخليات الطلاب النهائيين. وكنت أسكن النيل الأبيض التي هي كلية القانون الآن. وقد علمت لاحقاً أن جماعة من طلاب البركس كانوا بالفعل يعدون العدة لمواجهة البوليس. فلربما ساءهم تفرقهم عن سُكات في ندوة سلفت بتاريخ 10-10-1964. ولابد أن اعتقال اللجنة التنفيذية للاتحاد في 15-10 قد قوي عزائمهم في الرد على الحكومة صاعاً بصاعين. فقد كوموا طوباً ونفايا بناء لردّ عدوان البوليس. وقد سبق القول أن الطلاب كالوا الاتهام اللجنة التنفيذية بالتقاعس دون الرد على اعتقال لجنتهم في ما ذكرنا من تمرد معروف للباشمهندس عمر صديق. فخطب في الطلاب بغير ما كلفته اللجنة التنفيذية به لما رأى حماستهم لمواجهة النظام.
وفي كلمات أخرى أعرض لشهادات عن رفاقنا في الجبهة الديمقراطية الذين “حرروا” ندوة عارضوها وفدوها بالدم المراق وإثخان الجراح 

ندوتكم، لكن الحررها منو؟

قلنا أن من رأى الأستاذ أنور الهادي عبد الرحمن، سكرتير الثقافة بلجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي اندلعت ثورة أكتوبر 1964 في ولايتها، أن اقتراحنا في الجبهة الديمقراطية بالمظاهرة، خلافاً لاقتراح الإسلاميين بالندوة، كان جبناً. فنحن عنده فترنا من نضال عبود ومِلنا لخطة مهادنته ودخول مؤسساته وتقويضها من الداخل، أو السيطرة عليها. ولا تجده كشف عن معدن شجاعته وتنظيمه في اقتراح ندوة وتنظيمها في حين لم يعدوا العدة لتنفجر كما فعلت، فلم يزد الاتحاد ولا الاتجاه الإسلامي عن الإلحاح عن عقد الندوة. فلم تكن لهم الخطة ب، أي خطة ما ينبغي للطلاب عمله لندوة معلوم أن الدولة تتربص بها كما فعلت في ندوة 10 أكتوبر الأخرى. فلم يزد أنور، حين هجمت الشرطة، أن طلب من الطلاب الثبات في مواقعهم. وحين اشتد نكير الشرطة طلب منهم أن يؤمنوا الطالبات بالحضور في موضع حصين. ولا زيادة. وانصرف أنور مثلهم مثلنا من الطلاب الفصول العليا إلى داخلياتنا على شارع الجامعة بعيداً عن البركس. ولو لم ينهض جماعة من طلاب البركس لكانت ندوة أنور، التي جعلها معياراً في شجاعة الإسلاميين وخور ما عداهم. ندوة وانفضت: وكانت يا عرب 

إذا كان لابد من نسبة الشجاعة إلى أحد في تلك الليلة فهي من نصيب تلك الجماعة التي “حررت” ندوة متروكة على قارعة الشرطة. وكان يخالجني دائماً أن عصب تلك الجماعة كانوا من الجبهة الديمقراطية. وخاضوا ما خاضوا فيه من تلقاء أنفسهم بغير توجيه من سكرتارية الجبهة الديمقراطية. كنت أعرف أن نفراً من رفاقنا استشهد في الواقعة أو جرح: أحمد القرشي، عبد الله محمد الحسن، الوديع السنوسي، محمد فائق. ولكن عددتهم ضمن الكثيرة حتى أنني لم أسأل رفيقي الحبيب المرحوم عبد الله محمد الحسن عن ظاهرة فدائية أولئك الرفاق. ثم تواترت مؤخراً شهادات تشير إلى أن جماعة ما من رفاقنا في الجبهة الديمقراطية في البركس تعاقدوا على حمل الندوة إلى نهايتها المنطقية وهي الصدام مع الشرطة. وهو ما لا يستطيع أنور نسبته للاتحاد أو للاتجاه الإسلامي. ولا حتى لنا في الجبهة الديمقراطية


بابكر حسن عبد الحفيظ: الليلة الموت

سأبدأ اليوم بعرض شهادة محمد مالك عثمان عضو مجلس اتحاد الطلاب عن الجبهة الاشتراكية والزميل المنشق عن الجبهة الديمقراطية مع المرحوم غازي سليمان. فكتب كلمة بعنوان “وسط لهيب الأربعاء” ضمن كتاب “خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية، 1964-2014″ الذي حرره الدكتور حيدر إبراهيم وآخرون على الصفحات 333-34. وعرض في كلمته للشهيد بابكر حسن عبد الحفيظ، الذي نسبه للجبهة الديمقراطية، وكيف استعد ل”يوم لقا بديك أتوشح”


قال ود مالك: “وأنا لن أنسى مشهد الشهيد بابكر عبد الحفيظ حيث كنت أسكن في داخلية كسلا التي عقدت فيها (عندها الندوة) في الطابق الأرضي. غرفتي كان رقمها 8 وبابكر عبد الحفيظ كان يسكن في الغرفة رقم 7. ونحن في طريقنا لتناول وجبة العشاء قبل الندوة جاءني بابكر عبد الحفيظ وقال لي “يلا يا ريس” (لعضويته مجلس الاتحاد). وكنت قد التقيته بالنهار واتفقت معه في أن نتحرك ونجمع الطلاب لتجهيز الكراسي في النجيلة للندوة. وكأن بابكر يعلم أن هذا آخر يوم له في هذه الدنيا. وعندما نزلنا إلى قاعة الطعام وتناولنا العشاء قام هو بحمل الكراسي والترابيز وكان ينادي الطلاب. وأنا أقصد ذكر هذه التفاصيل لأنه إذا كان هناك شهيد أول فهو بابكر حسن عبد الحفيظ. وانا لا أود أن أظلم الشهيد أحمد القرشي، ولكن بابكر عبد الحفيظ كان له دور كبير في إثارة وتهييج الطلاب وحمل الترابيز والكراسي. وهو من قام بوضع وترتيب كل شيء تحت ظل شجرة اللبخ الكبيرة المجاورة للداخلية. كما أنه صعد إلى أعلى الشجرة وأحضر فرع شجرة كبير جداً في يده، وقال لي ساستخدم هذا كدرقة. وقد حمل أحد أغطية الأزيار في يده ومعه فرع الشجرة وقال لي: “الليلة الموت”. وجلس بالقرب منا. وهو لم يكن من المتحدثين إنما جلس لحمايتهم. وبابكر عبد الحفيظ كان أقرب للجبهة الديمقراطية ولم يكن شيوعياً. وكان يدرس القانون في السنة الثانية، وكان في قمة الحماس الثوري مستشعراً القضية، ولعب دوراً أساسياً وأنا أذكر دائماً مواقفه هو الذي هيأ المكان المناسب لإدخال البنات إلى الغرفة العامة. ً
ونواصل عرض الشهادات عن فتية الجبهة لم يطر شاربهم و”انخرش” جسدهم كثيرا

شاهد عيان وجريح في ندوة ثورة أكتوبر: سرب تاكسي لإسعافنا 

أعيد هنا نشر كلمة جاد بها قلم المهندس خالد نجم الدين سليمان في النت بتاريخ 21 أكتوبر 2014. وخالد من جرحى ندوة 21 أكتوبر وفي الجماعة التي كان فيها الشهيد أحمد القرشي. وسيجد فيها القارئ صورة عن كثب لفرقة مصادمة استعدت بغير تحريض من اتحاد الطلاب أو غير اتحاد الطلاب للدفاع عن ندوة جرت في عقر دارهم. وسأعلق لاحقاً على وجود زميلي وحبيبي المرحوم عبد الله محمد الحسن، عضو مجلس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم عن الجبهة الديمقراطية في قلب الحدث وبسالته التي نوه بها خالد. وأعرف به. رحم الله عبد الله  

مذكراتي عن ثورة أكتوبر المجيدة 

بقلم: المهندس/ خالد نجم الدين سليمان 

أحد المصابين في ندوة أكتوبر 

مساء يوم الأربعاء 21 أكتوبر 1964م 

الشرارة الأولى 

في بداية العام الدراسي 1964م بجامعة الخرطوم، طرح اتحاد الطلاب ثلاث مواضيع هامة للمناقشة، هي 

١.حل مشكلة جنوب السودان عن طريق الحوار والمناقشة وعدم استخدام قوة السلاح 

٢.المطالبة بضرورة استقلال القضاء كأساس للعدالة

٣.المطالبة بضرورة استقلال الجامعة – منبر العلم والثقافة 

هذا الطرح لم يعجب السلطة الحاكمة، فقامت باعتقال اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وزجت بهم في سجن كوبر 

الندوة الخاصة بمناقشة مشكلة جنوب السودان 

الزمان: يوم الأربعاء الموافق 21 أكتوبر 1964م، الساعة الثامنة مسا 

المكان: داخليات سكن طلاب الجامعة (البركس)، والاسم يرجع إلى سكن جنود الجيش الإنجليزي إبان الحكم الثنائي للسودان 

عندما أعلنت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب الجامعة عن قيام الندوة في ذلك اليوم، صدرت التعليمات من إدارة الجامعة بغمر كافة الميادين الموجودة في حرم الجامعة بالمياه لمنع قيام الندوة؛ وذلك كإجراء لحماية الطلاب بعد أن تأكد لها إصرار الطلاب على تحدي السلطة في موقع أرض فضاء وسط داخليات (البركس)؛وكان هذا الموقع مهيأ لبناء داخليات جديدة 

كان حماس الطلاب كبيراً وظاهراً لتلبية نداءات الاتحاد بضرورة إقامة الندوة. فقد تقسم الطلاب إلى مجموعات عمل نشطة قامت بتهيئة موقع الندوة، ومحاولة تأمينه قدر الإمكان من تدخل السلطات الأمنية. وقد قمنا بجمع ما نستطيع من الهراوات والعصي من فروع الأشجار لاستخدامها كحماية في حالة أي هجوم من جانب السلطات الشرطية التي بدأت تتجمع بشكل كبير، وتأخذ مواقعها حول داخليات (البركس) لمنع إقامة الندوة

في تمام الساعة الثامنة والنصف مساء بدأت الندوة.. وما أن بدأ المتحدث الأول في إلقاء كلمته، حتى أخذت الشرطة في محاصرة موقع الندوة. كنت في الصفوف الخلفية للحاضرين؛ وكنا أول من تلقينا القنابل المسيلة للدموع، فاندفعنا نحو الأمام. وبدأ الهرج والمرج، وتفرق الجمع في مجموعات من الطلاب متحمسين للدفاع عن مؤسستهم وأنفسهم، يحملون العصي والهراوات مندفعين نحو وحدات الشرطة المُحاصرين في كل اتجاه بهتافات داوية” “البومبان لن يثنينا” 

بها قلم المهندس خالد نجم الدين سليمان في النت بتاريخ 21 أكتوبر 2014 بها قلم المهندس خالد نجم الدين سليمان في النت بتاريخ 21 أكتوبر 2014 شاء الله أن أكون ضمن المجموعة التي اتجهت نحو داخلية (سوباط)، وبالتحديد الممر بين داخلية (القاش) وداخلية (سوباط) في اتجاه المخرج من (البركس إلى شارع النيل شمالاً. ويبدو أن مجموعتنا هذه كانت أكثر حماساً وأكبر حجماً من مجموعة الشرطة المتمركزة في هذا الموقع، مما جعلها تلجأ لاستخدام الرصاص الحي بدلاً من القنابل المسيلة للدموع للتفريق. ولم يكن أحد منا يتوقع أن تستخدم الشرطة السلاح الحي، خاصة وأن هذه الفئة (الشرطة) هي وحدة غازية دخلت مساكن طلاب آمنين، لا يملكون أسلحة نارية؛ وكل ما يملكون أدواتهم وكتبهم الدراسية. وبكل براءة كنا نتوقع أن تنسحب هذه القوة من ثكنات (البركس) وتتركنا في شأننا. ولكن قدر الله وماشاء فعل. فكانت الشرارة التي انطلقت معلنة ثورة أكتوبر الشعبية المجيدة 

لاحظت أن الرصاص الحي، غير المتوقع، قد أطلق علينا بشكل أفقي مستمر، بدءاً من الغرب عند داخلية (سوباط) إلى الشرق نحو داخلية (القاش). فأصيب الشهيد (القرشي) في الرأس، وسقط صريعاً وتوفي في الحال. ثم المهندس عثمان البلك، أحياه الله وأبقاه، الذي أصيب في الصدر، ثم المهندس خالد نجم الدين (كاتب الوصف هذا) في منطقة الكأس؛ والشهيد بابكر حسن عبد الحفيظ في منطقة الأمعاء، وتوفي لاحقاً، ثم حسن الوديع الذي أصيب في منطقة الحوض أسفل الجسم. وهنا تراوحت الإصابات من الرأس فالصدر ثم البطن، فالحوض، إلى أن وصلت إلى الفخذ، والأرجل أسفل الجسم 

هنالك ثلاثة مشاهد عظيمة حدثت وكان لها أثر طيب في نفسي، وما زلت أحمله منذ خمسين عاماً وحتى الآن 

المشهد الأول 

لحظة أصابتي بالطلق الناري وأنا في وسط زملائي الطلاب. أذكر أنه كان بجواري الزميل القانوني (الإداري) عبد الله محمد الحسن الذي توفي في حادث حركة بالخرطوم رحمة الله عليه. لم يتردد هذا الطالب الشهم، وحملني بين يديه بمساعدة بعض الزملاء، وانطلقوا بي بسرعة البرق متجهين نحو البوابة الرئيسية لداخليات البركس في الجهة الغربية، في محاولة منهم لإسعافي بالسرعة الممكنة نحو مستشفى الخرطوم. وعند البوابة تصدت لهم قوات الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع. وهنا تجلت لي نخوة وشجاعة هؤلاء النفر من زملائي الطلاب. فبدلاً من أن يتركوني أصارع الموت لوحدي، أصروا على حملي متوجهين جنوباً نحو الجدار الذي كان يفصل بين داخليات البركس و مدرسة الخرطوم الثانوية. فتسلق بعضهم الجدار إلى الجانب الآخر؛ وحملني البعض الآخر على كفوفهم متجاوزين الجدار، ليسلموني لزملاء في الجانب الآخر. ومن هناك أسرع بي الزملاء نحو الطريق الرئيسي بحثاً عن وسيلة نقل إلى مستشفى الخرطوم

المشهد الثاني 

لدهشتي، فما أن وصلنا إلى الطريق الرئيسي، حتى لاحظت وجود سرب من سيارات الأجرة (التاكسي) تقف على الطريق استعداداً للانطلاق إلى المستشفى وكأنها سيارات إسعاف تم طلبها رسميا لهذا الحدث. ولكن هكذا هو الشعب السوداني العظيم بكل فئاته ومكوناته، دائما تجدهم وقت الحارة لمد يد العون والمساعدة دون جزاء أو شكر. نزل سائقو التاكسي من سياراتهم، وأسرعوا نحو الطلاب، وحملوني ووضعوني في السيارة الأمامية، التي انطلقت بنا نحو المستشفى. وفي هذه اللحظات فقدت الوعي ونطقت بالشهادة 

المشهد الثالث 

لم أع ما حدث بعد ما وصلنا إلى المستشفى. ولكن الأخوة والزملاء الحاضرين للمشهد حكوا لي تفاصيله بعد أن تم إسعافي وإجراء العملية الجراحية. أذكر أنني فقدت الوعي منذ مساء الأربعاء الساعة التاسعة مساء تقريباً، وصحوت ورجعت للدنيا صباح يوم الخميس 22 أكتوبر حوالي الساعة الثامنة صباحاً، بعد غياب عشر ساعات. ووجدت نفسي في غرفة العمليات بمستشفى الخرطوم ويجلس بجواري اثنان من الطلاب من أقربائي من جزيرة توتي، هما المهندس عبد المنعم خوجلي عثمان، والدكتور صديق محمد أحمد أستاذ الإحصاء بكلية الاقتصاد 

المشهد الرابع 

هذا المشهد لم أشاهده، ولكنه حكى لي لاحقاً؛ ورأيت أن من واجبي أن أوثقه، وهو الدور الكبير الذي قام به الكادر الطبي المكون من كبار الأطباء والجراحين أمثال الدكتور أحمد عبد العزيز، والدكتور زاكي الدين، والممرضين، وعلى رأسهم طالبات التمريض العالي، وطلاب كلية الطب بالجامعة، وكافة العاملين المساعدين في مستشفى الخرطوم. فقد علمت بان جميع هؤلاء هبوا من كل صوب وفي سرعة فائقة، حيث قام كل بدوره في العمل والمساعدة في إنقاذ الطلاب المصابين في وقت وجيز. جزاهم الله عنا كل خير 

من خلال المشاهد الأربعة أعلاه، حرصت، وللتاريخ والتوثيق أن أبين عظمة ونخوة الشعب السوداني، ممثلة في فئات الطلاب، وسائقي سيارات الأجرة (التاكسي)، والكادر الطبي. وما قدموه من تضحيات كبيرة من أجل إنقاذ المصابين في تلك الليلة 

أخيراً أقول أن النشيد يأتي متأخراً، وأن الحناجر لا تكف عن الرعاف، في الأغاني أو في سكرات الاحتضار، أو في أشعار محمد المكي إبراهيم وموسيقى محمد عثمان وردي ومحمد الأمين. وأذكر من ذلك 

باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني 

والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني 

وأقول للشعب السوداني العظيم. رغم ضراوة المحن، وما تواجهه من ابتلاءات، فأنت عظيم، وستظل عظيماً مهما طال الزمن، عاش الشعب السوداني 

عبد الله محمد الحسن: “يحردن بنات الجامعة، يحردن” يا أنور 

كتب المهندس خالد نجم الدين أحد جرحى ندوة الأربعاء 12 أكتوبر 1964 عن إصابته بطلق ناري في المواجهة بين الطلاب والشرطة في تلك الليلة. ليلة الأربعاء التي فيها “نصبوا بروج الموت فوق الجمعة” كما قال ود المكي. وكتب خالد عن شجاعة جماعة من الطلاب من حوله خص منهم بالذكر المرحوم الرفيق عبد الله محمد الحسن. فقال

لحظة إصابتي بالطلق الناري وأنا في وسط زملائي الطلاب. أذكر أنه كان بجواري الزميل القانوني (الإداري) عبد الله محمد الحسن الذي توفي في حادث حركة بالخرطوم، رحمة الله عليه. لم يتردد هذا الطالب الشهم، وحملني بين يديه بمساعدة بعض الزملاء، وانطلقوا بي بسرعة البرق متجهين نحو البوابة الرئيسية لداخليات (البركس) في الجهة الغربية، في محاولة منهم لإسعافي بالسرعة الممكنة نحو مستشفى الخرطوم. وعند البوابة تصدت لهم قوات الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع. وهنا تجلت لي نخوة وشجاعة هؤلاء النفر من زملائي الطلاب. فبدلاً من أن يتركوني أصارع الموت لوحدي، أصروا على حملي متوجهين جنوباً نحو الجدار الذي كان يفصل بين داخليات البركس و مدرسة الخرطوم الثانوية. فتسلق بعضهم الجدار إلى الجانب الآخر، وحملني البعض الآخر على كفوفهم متجاوزين الجدار، ليسلموني لزملاء في الجانب الآخر. ومن هناك أسرع بي الزملاء نحو الطريق الرئيسي بحثاً عن وسيلة نقل إلى مستشفى الخرطوم

انتهى كلام خالد: من هو عبد الله محمد الحسن 

كان يكتب اسمه الأخير أحياناً ك”المجذوب”. وهو من قرية فتوار شمالي بربر غربي النيل وقريباً من الباوقة. وتربى في الحصاحيصا. وقرأ الثانوية ببورتسودان الحكومية. والتحق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم في عام 61-62. وهو شقيق الرشيد محمد الحسن المناضل الشيوعي المخضرم المعروف ببحري الجزيرة. وله أخوات. وتزوج عام 1969 من الدكتورة دينا شيخ الدين وله منها خالد  

عمل بعد تخرجه مع المرحوم عبد الوهاب موسى في مكتب استشاري للعمل كان بعمارة تحتل بعضها صحيفة الرأي العام. وقام بعمل ميداني في مشاريع الشمالية للغاية. ثم التحق بمعهد الإدارة العامة الذي أوفده في نحو أوائل 1971 لبعثة بجامعة جنوب كاليفورنيا. فحصل على درجة الماجستير في الإدارة العامة وعاد في 1973 للسودان. وتوفي رحمه الله في حادث حركة فاجع في 1975  

من جهة السياسة فعبد الله عضو الجبهة الديمقراطية بالجامعة، ورابطة الطلاب الشيوعيين، فالحزب الشيوعي. ومثّل الجبهة لديمقراطية في مجلس الاتحاد ولجنته التنفيذية للعام 1963-1964. وفُصل من الجامعة لعام 63-64 بسبب تظاهرة للطلاب في حفل تخريج بالجامعة شهدها مدراء الجامعات الأفريقية. وكان قرار الاتحاد أن ينسحب الطلاب بهدوء احتجاجاً على قرار نظام عصابة 17 نوفمبر بضم الجامعة إلى وزارة التربية. ولكن عضوين من الجبهة الديمقراطية هما الدكتورين سراج علي اللبني وعبد المنعم عطية خرقا الاتفاق، وهتفا، وتبعهما الطلاب. وسبِّب خروج الزميلين لنا حرجاً في أروقة الاتحاد تفهمت المعسكرات الأخرى اعتذارنا عنه. وشملني الإيقاف كسكرتير للاتحاد. وشمل المرحوم بابكر الحاج الذي كان أول من تحدث في ندوة “الإخوان” أو كما قالوا، ولم يكمل كلمته كما هو معروف  

عمل عبد الله خلال سنة الإيقاف مديراً لأعمال علي دنقلا في الخرطوم بحكم صلة الأسرتين في الحصاحيصا. وكان دنقلا قد وقع عليه عطاء بناء عدد من قرى خشم القربة لتوطين أهالي حلفا. وكان مكتبه على شارع الحرية في أواسط المنطقة الصناعية. وكنت عمِلت مدرساً بمدرسة الجمهورية. ومتنت هذه السنة أواصر المحبة بنا على طريق الزمالة. كنت نلتقي في قهوة قريبة من الكوباني بالسوق العربي كل مساء تقريباً. وكان يغشانا المرحوم عمر عوض حمور المدرس بوادي سيدنا. وكان هي تلك الظروف التي أول ما عرفت فيها الدكتور عبد الرحيم على الطالب بمدرسة وادي سيدنا  

أهديته كتابي “بئر معطلة وقصر مشيد” بقولي: “يا حبيبي، اسهدتني عليك”. كان أرأف الناس بي وأبرهم. وكنت احبه جداً لله والحزب والوطن. ثم التقينا على محبة أستاذنا عبد الخالق محجوب وكتاب ماركس: “الثامن عشر من برومير” لبلاغته قبل شيء. ولو آثر أستاذنا أحداً بمحبته من جيلنا لكان عبد الله على غير ما يدعي بعض الناس لي. فكان يغشاني نهارات الجمع لنزور أستاذنا في بيته. وكان بمثابة سكرتير له. ينتحي به أستاذنا جانياً في حديث وتكاليف. ثم نجتمع بعدها ونسمر. وتصدى عبد الله أكثر مرة للرد على المرحوم صلاح أحمد إبراهيم في مقالات بجريدة الصحافة عام 1968 تتريق فيها على أستاذنا تريقة حامضة وغير مجدية. كما كتب الشعر ونشر بعضه على صفحة “الرأي العام” الأدبية التي حررها الأستاذ أحمد علي بقادي  

ولما قام انقلاب مايو 1969 كان عبد الله قريباً من أستاذنا في اللجنة الحكومية التي نشأت للتنسيق بين الحكومة والحزب لتفادي الصدام وسوء التفاهم، و لتدارس مشروعات الحزب للدولة. ثم صار إلى وزارة الجنوب الجديدة مع الرفيق الشهيد جوزيف قرنق مستشاراً للعمل النقابي. وأول ما رأيت أستاذنا في غير بيته أو في العمل العام كان في أغسطس 1969 جاء يهنئ عبد الله بزواجه في بيته بامتداد الثالثة قريباً من محطة 7  

كان عبد الله في البعثة حين قام انقلاب 19 يوليو 1971 وتشتت الشمل. وعاد في 1973 ووجدني في طيات العمل السري. وكان بيته مفتوحاً لي في كل وقت. آكل واشرب وأهنأ. وفوجئت ضحى يوم من عام 1975 بمن نقل لي خبر مصرعه في حادث حركة على شارع الصحافة شرق. وعرفت أني تيتمت. وكانت سيارته الخضراء البيضاء قعيدة عند القسم الجنوبي لشهور أمر عليها فتنتحب روحي  

هذا هو الحبيب عبد الله. كان لما عاد للجامعة في 1964 عضواً بمجلس الاتحاد. وها أنت تراه العضو الوحيد من المجلس الأربعيني الذي كان بين الطلاب جريحاً هو نفسه ويداوي جرحاهم. ولا أحسب أنه كان من سكان البركس. فعهدي به أنه كان إما بداخلية بحر العرب أو الرهد او ربما بحر الغزال. وغير متأكد. لم أكن لا أنا، ولا ربيع حسن أحمد، ولا أنور الهادي عبد الرحمن، الذي ما كف يرمينا بالجبن و مهادنة النظام، ممن شهدوا الوغى مثل شهود عبدالله. وبينما كان عبد الله جريحاً يحف جريجاً بعناية شجاعة وسط زخات الرصاص كانت زوجته مستقبلاً، دينا شيخ الدين، تطلق زغروداتها في ساحة البركس تحض على الوقوف والبسالة 

يا أنور لا تزاود علينا. ديل ناس عبد الله محمد الحسن يا أنور. ما تغلط. و”يحردن بنات الجامعة يحردن” (واستعمل العبارة بخشونتها الأبوية مجازاً)  

(ديسمبر 2017)

عن المؤلف

بروفسور عبدالله علي إبراهيم مؤرخ وكاتب وأكاديمي سوداني بارز مقيم في الولايات المتحدة

.

أضف تعليق