أدب الشفاء

حسن موسى

هذا النص  يحتوي على مجموعة التفاكير التي ألقيتها على الأصدقاء الذين حضروا محفل لاهاي يوم 15 سبتمبر 2007 بدعوة من منظمة ” نصون” المدنية  لمناقشة عامة حول “دور المثقف السوداني في قضايا التحول الديموقراطي”

 و قد نشرت النص  حينها في “منبر الحوار الديموقراطي” بموقع “سودان للجميع دوت اورغ”  لكن  الموقع  اختفى للاسف (بفعل فاعل) و أظن أن نشر النص في هذه الأيام يمكن أن يساهم في  إحياء المناقشة حول كيفية معالجة أسباب الحياة المشتركة  بين السودانيين بعد انتهاء المنازعة الدموية الراهنة في السودان

(1)

و ما المثقف؟

لو كان في وسعي أن ألخص دور المثقف في عبارة لقلت

المثقف يصنع حلم اليوتوبيا و يصونه كنوع من الوهم النافع الذي يلهم الناس أسباب التضامن على مشروع الخلاص الإجتماعي

 وترجمة العبارة هي أن الحلم الطوباوي برنامج، وحلم المدينة الفاضلة التي يسودها حكم مثالي و يحيا فيها شعب سعيد، هو الخامة الإبتدائية التي ينتفع بها الناس في صناعة  الرباط الإجتماعي كخيار واعي و ضروري للحياة في تعبيرها الجمعي و الفردي. وفي  منظور الخلاص الإجتماعي ينطرح الحلم الطوباوي كضرورة تهم الجميع  فيؤدبها الأدباء و يشكّلها التشكيليون و يموسقها الموسيقيون  مثلما يفلسفها الفلاسفة و يسيّسها السياسيون، مثلما يهندسها المهندسون و يرقصها الراقصون إلى آخر كلام الشعراء.و اليوتوبيا تملك أن تتجسد في جسد الدين( الأرضي أو السماوي) مثلما تملك أن تتجسد في جسد الفكر المادي. و لو خلصنا إلى أن لا خلاص بغير يوتوبيا نخلص لأن لا يوتوبيا بغير مثقفين

 سورة التور؟

لقد استهل الأخ محمد جمال الندوة بمحاولة تعريف المثقف و سعى بالميكروفون وسط الحاضرين بسألهم إن كانوا يعتبرون أنفسهم مثقفين أم لا.و تعددت الإجابات  بين من اعتبر نفسه مثقفا ومن أنكر عن نفسه صفة المثقف ،و سعى بعض المتحدثين لمعارضة المتعلم بالمثقف مثل الدكتور عبد المنعم مختار الذي  أعلن بأنه” مثقف بنسبة 17 في المية” كما سعى بعضهم لتصنيف المثقفين بقدر  قربهم أو بعدهم من السلطات السياسية ، مثل الروائي المصري رؤوف مسعد الذي  استبعد المثقفين المتواطئين مع السلطات من دائرة المثقفين. و أظن أن أفضل تعريف للمثقف هو تعريف  جان بول سارتر الذي قال مرة” المثقف  شخص  ينشغل بما لا يعنيه” يعني “مُتلقّي حجج”.و أظنه تعريف يناسبنا جميعا في الموقف الذي نقفه هنا في هذا المقام الجمعي الجليل، و قد وفدنا من أنحاء جغرافية عديدة و من خلفيات ثقافية وسياسية متباينة لنتلقى حجج هذا الشأن العام، شأن الممارسة الديمقراطية الذي  رغما عن كوننا لم ندرسه في الجامعات و لم نتخصص فيه إلا أنه يهمّنا و يهجس أحوال حركتنا و سكوننا، فنتقحّم مقاماته و نتطفل على النفر الذي استبدّ واحتكر حق الحديث فيه و لا يهمنا إن أفسدنا عليهم بهجة نادي المتخصصين

نعم،في مقام مناقشة قضية الديموقراطية فكلنا مثقفون على صورة ذلك الإمام المزارع في حكاية ” سورة التور”. و هي حكاية سمعتها  مرة من بعض أصدقائي الجمهوريين في السبعينات.و الحكاية  تحكي ما حصل لعالم أزهري درس الفقه وجوّد علوم الدين  ونال الإجازة من الأزهر و عاد ليشغل وظيفة في ديوان الإفتاء.قالوا أن الرجل في طرق عودته قرر المبيت في قرية صغيرة منسية  قبل أن يستأنف سفره في الصباح. واستضافه أهل القرية في مسيدهم و أكرموه و هم لا يدرون شيئا من أمر تخصصه. وحين جاء وقت صلاة العشاء اصطف القرويون وراء إمام القرية ليصلوا و حذا العالم الأزهري حذوهم.و ما أن شرع الإمام في الصلاة حتى تبين للشيخ الأزهري  أن هذا الرجل الذي يؤمّهم  يغلط في القراءة  ولا يعرف كيف يؤدي الصلاة بشكل صحيح .فصبر عليه  حتى سلّم و عاجله

 يا زول قرايتك و صلاتك كلها غلط في غلط

فرد الإمام مندهشا

وإنت منو عشان تغلّطني في قرايتي و صلاتي؟

فرد العالم الأزهري

أنا فلان و درست علوم الدين في الأزهر الشريف و بكرة الصباح ماشي أشتغل مفتي في الخرطوم

فرد الإمام

و أنا فلان تعلمت القراية و الصلاة هنا و بكرة الصباح بمشي اشتغل في زرعي

فأراد العالم أن ينهي المجادلة بإفحام الإمام المكابر فقال له

إنت كان بتعرف القراية  كدي أقرا لينا سورة البقرة قدام المسلمين الصّلّيت بيهم ديل

فوجم الإمام  لحظة و اسقط في يده. فهو لا يعرف من سورة البقرة  و آياتها المئتين و ستة و ثمانين إلا أولاهن التي تبدأ بـ ” آلم” . وحقيقة لم يكن إمام القرية شخصا متبحرا في علوم الدين و لم يكن تجويد القراءة بين أولوياته.كان مزارعا أميا يدبر أموره على الحس السليم ولا يخوض في  أمور الدين المشتبهات. و كان أهل قريته يولونه ثقتهم و يستفتونه  و يصلون وراءه و رغم أن كل حصيلته من القرآن لم تكن تتجاوز معرفة الفاتحة وبعض السور القصيرة

ساد صمت ثقيل في المجلس و أهل القرية يجيلون النظر بين العالم المزهو وإمامهم المطرق

فجأة رفع الإمام رأسه وخاطب العالم قائلا

أنا بقرا ليك” سورة البقرة” بس  إنت تقرا لينا “سورة التور” في الأول

فانتفض العالم واقفا كأن عقربا لدغته و صرخ

لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ،يا زول استغفر، القرآن مافيهو سورة اسمها “سورة التور”

فالتفت الإمام ناحية الحضور و سأل مجموعة الرجال الغبش المقرفصين  حوله

يا جماعة ، الله قال : ما فرطنا من شئ في الكتاب، أها هل يجوز إنو البقرة الإنتاية يكون عندها سورة في الكتاب و التور الضكر ما يكون  عندو سورة؟

فأجاب الحضور في صوت واحد

لا،حاشا،إذا كان في الكتاب سورة للبقرة  فضروري يكون فيهو سورة للتور كمان

والتفت الإمام نحو العالم الواقف وقال

إنتو الله دا شافوه بالعين و لا عرفوه بالعقل؟

قالوا أن العالم الأزهري انحنى و طوى  مصلاته و حمل متاعه و قرر أن لا يبيت ليلته  مع القوم الجهلة الزنادقة

بعدها لسنوات ظل أهل القرية يتندرون بحكاية هذا العالم” المثقف” الغريب الذي يجهل “سورة التور”.بينما هم لم يكن يداخلهم الشك في  وجودها في الكتاب. وظل إمام القرية ” المثقف” يؤم الصلاة كعهده و يقرأ ما تيسر  بطريقته دون أن يحتاج يوما لقراءة سورة البقرة أو حتى لقراءة سورة التور

و هكذا فكلنا مثقفون  و لا فضل لفقيه  على مزارع  إلا بحرصه على أولوية الممارسة  الديمقراطية، و الحسّاس يملا شبكتو

(2)

خشوم بيوت المثقفين

لكن المثقفين في بلادنا طبقات ، و هم في طبقاتهم ” خشوم بيوت” و قيل “لحمة راس”.وثمة مثقف و مثقف ، ومن إختلاف المثقفين نقول ب ثمة يوتوبيا و يوتوبيا،لأن اليوتوبيا، على صورة صناعها،  طبقية .و كل طبقة تخترع حلمها الطوباوي من واقع مشروعها التاريخي و من صميم مصلحتها المادية. و في هذا المشهد تتعارض يوتوبيا الفقراء مع يوتوبيا الأغنياء.و قد شهد مجتمعنا في تاريخه الحديث تواتر الطوباويات الكبيرة ابتداءا من اليوتوبيا المهدوية ليوتوبيا” وحدة وادي النيل” ليوتوبيا “الوحدة العربية “( الإندماجية كمان) أو يوتوبيا الإشتراكية السودانية ” السودانوية” المستوحاة من  واقعنا و تقاليدنا المحلية ،و يوتوبيا ديكتاتورية الطبقة العاملة، و يوتوبيا ” الرسالة الثانية  من الإسلام”و يوتوبيا “المشروع الحضاري الإسلامي” رجوعا ليوتوبيا” السودانوية السعيدة” في نسخة ” السودان الجديد” التي صارت تستهوي الشباب المتفائل.و في قلب  هذا التواتر البديع شهد المجتمع السوداني صعود و هيمنة  رهط مثقفي الطبقة الوسطى المدينية الذين تخرجوا  في المؤسسات التعليمية الأسطورية لعهد الاستقلال (حنتوب و وادي سيدنا و  خورطقت إلخ) و التقوا على صيانة  الحلم الطوباوي العربسلامي، في مؤسسات التعليم العالي المدنية ( جامعة الخرطوم) و العسكرية ( الكلية الحربية) فتزاملوا و تحالفوا و تصاهروا و تناسلوا و أثروا و كدّسوا الأرصدة في المصارف الأجنبية  و ورّثوا ذريتهم الإمتيازات و استفردوا بالشعب الأعزل  يعربدون بلا رقيب على سطح الحياة الإجتماعية .. وأهو عايرة و أدّوها سوط

قلت أن المثقفين” خشوم بيوت” و هم في تنوع مشاربهم و مآكلهم إنما يعكسون صورة تناقض المصالح في المجتمع السوداني.لكن يبقى أن الفرز ضروري بين أنواع المثقفين السودانيين ، و ضمن هم الفرز أقول أن أغلب المثقفين السودانيين  يقيم على هم اليوتوبيا و يبذل في سبيل فكرة المدينة الفاضلة والمجتمع السعيد جزءا كبيرا من جهده و من وقته و فيهم من يبذل الروح و يلتحق برهط الشهداء والصديقين في جنات الخلد ولو توسل إلى ذلك بوسائل الفكر المادي ، و ” كل شي جايز في هادي الأيام” كما قال رحمه الله ود الكاشف (بندرشاه) 

فماذا نفعل بتركة البرامج الطوباوية التي أورثنا إياها السلف الصالح (و الطالح)؟هل نضيف عليها طبقة جديدة أم نرميها في نفايات التاريخ؟و هل على المثقف السوداني المعاصر مصالحة الطوباويات في نسخة جامعة جديدة أم هجرانها بالكلية و الإنشغال بالخلاص الفردي على منطق خلّص طيزك و من بعدك الطوفان؟

حلف الفضول

من مشهدي الشخصي أرى كل اليوتوبيات مقبولة مبدئيا ، و أن تعارضت مصالح سدنتها ،من حيث كونها تتلاقى عند هم العمل العام الذي يستهدف تحقيق حلم خلاص الجمعي.اليوتوبيا بطبعها حلم جمعي لا مكان فيه للمشروع الشخصي.و هذه الصفة تجمع الضالعين في الحلم الطوباوي ضمن فئة أو جبهة واحدة . وضمن تضارب المصالح الظاهرة و المستترة في المشهد السوداني مطلوب من المثقفين السودانيين تعريف منطقة الحد الأدنى التي يمكن أن يتضامن عليها أهل جبهة الطوباويات  في شكل برنامج و  عملي ، و قيل براغماتي ، يمثل الطرف الممكن (في شرط الآن و هنا) من المشروع الطوباوي المسقط على شاشة المستقبل

هذا” الحد الأدنى” هو أولا تجنب الاقتتال وصيانة ما أنجز من مشروع السلام الهش المتبرعم وسط حقل الألغام الواسع المسمى بالوطن.و هو ثانيا تجنب الخصام المجاني غير النافع  الذي يشوّش ويعكر رؤية الخصام الحقيقية و يموّه من حضور الخصوم الحقيقيين وراء ستار الخصوم الوهميين، و هو ثالثا صيانة حد أدنى من التدبير البراغماتي الذي يوفر الجهد و المال في أمور عملية لا خلاف عليها،مثل الخدمات الصحية والمواصلات إلخ.و كلها تدابير يمكن الإتفاق عليها بين الفرقاء المتضامنين على  خصومة العقلاء،القائمة على ما هو جوهري في الخلاف السياسي.(و على سبيل المثال لابد للسلطات ، مهما كان لونها السياسي، من أن تحظر على تجار المواد الغذائية من إضافة  مواد كيماوية ضارة بالصحة للطعام كما حدث في قضية الخبز المسمم بالكيماويات، والتي ورد ذكرها في الصحف قبل أسابيع). فكيف نؤسس لهذا البرنامج البديهي الذي يبدو في متناول اليد من مشهد المتفائلين  مثلما يبدو بعيدا عسير المنال من مشهد المتشائمين؟ التأسيس الناجز لبرنامج ” الحد الأدنى ” البراغماتي و” غير السياسي” لا يكون  إلا بعمل سياسي. و هذا النوع من العمل السياسي ممكن رغم صعوبته التي تتلخص في ضرورة مقاربة الخصوم السياسيين لتعريف حدود الخصومة و مشروعيتها و عقلنتها. وللمثقفين من سدنة اليوتوبيات في هذا المشهد مهمة تاريخية فرص تحقيقها ترتهن بجدية “إيمانهم” بالحلم الطوباوي. و كما ترون فكل هذا يردنا في النهاية إلى ” حظيرة الإيمان” فهل الاعتقاد الطوباوي  وجه من وجوه العبادة؟ مندري؟ و لو كان بينكم من يدري فلينفعنا الله بدرايته

(3)

حلف الفضول

 المهم يا زول

على أي قاعدة نؤسس لإنقاذ السلام في وطن الأخوة الأعداء؟

السلام ينبني على قاعدة العدل و الديموقراطية. و أول خطوة لإحلال مباديء العدل هي رد الحقوق المهضومة لأهلها و الإقتصاص ممن ظلموا واعتدوا وجاروا على الناس بغير وجه حق.و أول خطوة لإحلال مبادئ الممارسة الديموقراطية هي ضمان سلطات الدولة  لاستمرارية العدالة من خلال مؤسسات مستقرة مستقلة عن السلطة السياسية.و كل هذا البناء لا يكون إلا على أساس من التضامن على الوضوح الفكري بين الفرقاء ، وعلى قاعدة من الثقة الفادحة المتبادلة التي تسوغ  تقديم السماحة الثقافية على الفسالة العرقية و على الضيق العقائدي بين كافة الأطراف ذات المصلحة في إنجاز المشروع الطوباوي السوداني. أو كما قال:” و لو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا،أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس 99)، و ” فمن اهتدى فلنفسه و من ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل” (الزمر 41)

كل هذا البناء لا يقوم إلا بعمل عام سياسي ينخرط فيه المثقفون الطوباويون بأسلوب  يعيد تأهيل الممارسة السياسية كشأن عام يخص كل الناس على اختلاف تخصصاتهم و على تباين حظوظهم من المعارف. فالممارسة السياسية شأن جليل لا يليق بنا أن نهجره فيستفرد به نفر من محترفي السياسة  الذين يبررون بأسهم السياسي بذريعة خبرتهم التقنية بآليات الممارسة السياسية، و لا يبالون إن اتخذوا القرارات السياسية الخرقاء المكلفة التي تدخل البلاد بحالها في ذلك الموضع الحرج من الوزّة. وأنا لا أقول بأن يهجر الأدباء والعلماء مجالات عملهم ليتفرغوا للسياسة و لكني أطالبهم بالإنتباه لما يحدث في ساحة السياسة السودانية و متابعته و مساءلة الناشطين السياسيين في وسائل وغايات  حركاتهم السياسية. وقد جاء في المثل أن البلد المافيها التمساح يقدل فيها الورل“.و ضد عربدات الورل الجائر في ثقافتنا المعاصرة أدعو قبائل المثقفين الطوباويين لتأسيس نوع معاصر من حلف الفضولعلى صورة ذلك الحلف الذي أسسه بعض فضلاء مكة في أواخر القرن الميلادي السادس ،و فحواه مناصرة المظلومين  و تقعيد التسامح في الحياة العامة. و بالنسبة للباحث القانوني العراقي و الناشط الهميم في  مجالات حقوق الإنسان الدكتور عبد الحسين شعبان يمكن اعتبار حلف الفضول أول رابطة لحقوق الإنسانمؤسسة علىرفض الظلم و العمل على إلغائه

– المساواة بين أهل مكة و من دخلها من سائر الناس، أي احترام الآخر بغض النظر عن انتمائه

 إحقاق الحق ونصرة المظلوم ورد حقوقه

الحفاظ على حياة الناس وكرامتهم

اللجوء إلى هيئة فضلاءلرد الظلم.”..”

 و بخصوص حلف الفضول قال  ابن الأثير

ثم ان قبائل من قريش تداعت إلى هذا الحلف، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان،لشرفه وسنه. و كانوا بني هاشم و بني المطلب و بني أسد بن عبد العزّى و زهرة بن كلاب و تميم بن مرّة، فتحالفوا و تعاهدوا ألاّ يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلاّ قاموا معه، وكانوا على ظالمه، حتى ترد مظلمته. فسمّت قريش ذلك الحلف  حلف الفضول

ويرى  عبد الحسين شعبان أن الإسلام اتخذ” موقفا ايجابيا من حلف الفضول ” الجاهلي”، و قد ألغى النبي محمد جميع أحلاف الجاهلية ، باستثناء حلف الفضول. و يوم سئل عنه أجاب

شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفا لو أنني دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت” “(عبد الحسين شعبان ، فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي، دار النهار 2005)

ضمن هذا المشهد العام أحاول معالجة وجه من وجوه المسعى الطوباوي  في طرح بعض المثقفين السودانيين ” الفضلاء” المتحركين ضمن مشهد العمل العام السياسي  المعاصر.هذا المسعى الطوباوي  هو ما طاب لي أن أسميه بـ ” أدب الشفاء” في السياسة السودانية

(4)

أدب الشفاء

عز المثقفين السودانيين

يا عبد الله ، نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديّان، حياتنا كد و شظف لكن قلوبنا عامرة بالرضى ، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا. نصلي فروضنا و نحفظ عروضنا، متحزّمين و متلزّمين على نوايب الزمان و صروف القدر. الكتير لا يبطرنا و القليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم و معلوم من المهد إلى اللحد. القليل العندنا عملناه بسواعدنا ما تعدينا على حقوق انسان و لا أكلنا ربا و لا سُحت. ناس سلام وقت السلام و ناس غضب وقت الغضب. المايعرفنا يظن أننا ضعاف إذا نفخنا الهوى يرمينا، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول، و أنت يا عبد الله جيتنا من حيث لا ندري.كقضاء الله وقدره ألقاك الموج على أبوابنا: ما نعلم انت مين و قاصد وين، طالب خير أو طالب شر. مهما كان ، نحن قبلناك بين ظهرانينا زي ما نقبل الحر و البرد و الموت و الحياة. تقيم معنا لك ما لنا وعليك ما علينا، إذا كنت خير تجد عندنا كل خير و إذا كنت شر فالله حسبنا و نعم الوكيل.”

خطاب محمود في استقبال ضو البيت

الطيب صالحبندر شاه” 112 . دار العودة 1971

و في استخدامي لعبارة ” أدب الشفاء” أحيل معنى” الأدب” في عبارة “أدب الشفاء” لمدلول ” الأدب” في المعنى الواسع الذي تدل عليه عبارة ” الثقافة” مثلما أحيله إلى المعنى النصوصي للممارسة التعبيرية التي اصطلحنا على تسميتها بالأدب. و على هذا الفهم تدل عبارة ” أدب الشفاء” عندي على موقف الناس الذين عبروا  بلاء المواجهة العنيفة الدامية و تعلموا بالتجربة ضرورة التعايش على منطق السلم و منفعة قبول الآخر و أنتجوا في سبيل ذلك نوعا تعبيريا غايته شفاء النفوس من منطق العنف

أدب الشفاء في مشهد العلاقات بين أهل السودان سجل مشرّف  وراءه  تاريخ طويل و مركب  لذلك الميل الطبيعي للسودانيين نحو الحياة المسالمة المبدعة القائمة على إعلاء قيم العدل و المساواة و حب الخير.و ربما كان  لتاريخ التعدد الثقافي والعرقي الذي طبع  تداخل العلاقات بين أهل السودان  الأثر الأكبر في تحفيز السودانيين على صيانة أدب للشفاء  من عواقب الصراع المادي و الرمزي الذي يواجهونه ضمن مسارات التطور التاريخي للمجتمع

و المقتطف منبندرشاهالذي يتصدر هذه الأسطر ما هو إلا بعض من خطاب ممتد في أدب الشفاء  قد نجد طرفا منه في كتابات معظم الكتاب السودانيين الذين لم يملكوا غير الكلم الطيب لدفع شياطين العنف و الفرقة و الحزن عن حلم الأمة المتضامنة على قيم السلم و العدل و الديمقراطية و الحرية.أدب الشفاء الذي صاغه الطيب صالح على لسانمحمود نلاقيه عند بابكر بدري كما نلاقيه في بعض أشعار المجذوب كما نصادفه عند فرانسيس دينج في دراساته أو في آثاره الأدبية مثلما  نقرأه في كتابات و خطب جون قرنق وفي أشعار ودراسات محمد عبد الحي و محمد المكي ابراهيم و النور عثمان وآخرين ممن تحلقوا حول حلفالغابة و الصحراءأو في الجهد الفني و النظري التمازجي العربي الأفريقي لمفهوم مدرسة الخرطومعند الصلحي. و بصرف النظر عن نوعية النقد  المحتمل لأدب هؤلاء و أولئك على صعيد  المفاهيم السياسية و الجمالية  فإن قاسمهم المشترك يقيم في مقام الحلم الطوباوي النبيل الذي يشرفهم كمثقفين. . و من الضروري فتح باب خاص بالدور النوعي المميز الذي لعبه مثقف كالأستاذ  محمود محمد طه في الستينات أبان المناقشة حول الدستور الإسلامي و الموقف من ولاية غير المسلمين و الموقف ضد العنف و الكلام عن فقه التسامح و إصلاح الشريعة  و قانون الأحوال الشخصية إلخ.ذلك أن للأستاذ محمود مساهمة رئيسية في تثبيت  خطاب مميز  في منظور أدب الشفاء في السودان، سيما و أن الرجل دفع غاليا ثمن تمسكه بمبادئ أدب الشفاء الجمهوري..  ولعل أكثر الأشكال المؤسسية تجسيدا لأدب الشفاء هو ما أطلقه نفر من الأدباء والفنانين الديموقراطيين في النصف الثاني من الستينات تحت مسمى أبادماكالإله النوبي الماثل برؤوسه المتعددة كأفضل تعبير عن استقرار موضوعة التعدد الثقافي و العرقي للسودان ضمن المشهد الثقافي الحديث .و قد كانت أهم منفعة لهذا التقليد الحديث أن تهيأت النفوس في سودان السبعينات لظهور مؤسسات  حكومية رسمية معنية بالتعبير الثقافي كمدخل ضروري للوحدة الوطنية من خلال التعدد و للتنمية الاجتماعية المتوازنة. فظهرت وزارة الثقافة و ملحقاتها  الرسمية المعنية بإحياء و صيانة آداب و ثقافات شعوب أهل السودان ( مصلحة الثقافة ، مركز دراسة الفولكلور، المجلس القومي للآداب والفنون  إلخ)

و إلى أن يظهر في أرض أدب الشفاء السوداني نوع الباحثين الذين يمنهجون النظر في تلاوينه الكثيرة بأفضل مما  أفعل  في هذه الأسطر المتفائلة، أبذل لكم  تفاكيري ( على هشاشتها ) في نقد بعض تعبيرات أدب الشفاء التي جادت بها أقلام  مهمومة بشفاء السودانيين من عواقب عقود من المواجهات الدامية، و طموحي أن انتفع بنقدكم في إصلاحها وتقويم  ما انعوج منها.. فقد حفزني لكتابة هذه الكلمة انتباهي لتواتر المقالات التي تصاغ أحيانا باسم ” الجنوبيين”أو باسم “المهمشين” و تخاطب جهة غامضة اسمها ” الشماليين” أو ” الوسط” أو ” المسلمين” أو ” العرب” أو” الأحزاب الشمالية”أو ” الحكومة” أو ” الجيش” مطالبة بأن يقوموا بالإعتذار للجنوبيين أو للمهمشين أو لعدد من ضحايا الصدامات السياسية الدموية كشرط ضروري لإستتباب السلام الإجتماعي السياسي والرمزي بين أبناء الوطن الواحد

و الإعتذار ، كوجه من وجوه أدب الشفاء السوداني ، موضوع عامر بمفاهيم  متضاربة، فرزها و تمحيصها يملك أن يجرنا خارج حدود المنفعة السياسية التي يسعى إليها المطالبون بالإعتذار ممن نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الضحايا في الجنوب أو باسم الضمير الحي في الشمال.و هذه السطور القليلة تحاول أن تساهم في فرز و تمحيص الخلفيات السياسية والرمزية لمطلب الاعتذار كموقف رمزي يتأسس عند تقاطعات الدين و السياسة في السودان.ذلك أن المطالبة بالإعتذار الجمعي عن  خطايا الأسلاف، بما تنطوي عليه من رجاء الغفران و العفو و المصافاة النهائية  بين النفوس المتعارضة، تسحب الممارسة السياسية الراهنة لمنطقة العبادة و تثقل مشروع الوفاق السياسي بين شعوب السودان بأثقال البرنامج الديني، فكأننا نتخلص من عبء الرجل المسلم لنرزح تحت عبء الرجل النصراني

(5)

  السن بالسن

 بعيد  سقوط  نظام النميري ،حكى صديقي الحاج علي، و هو شيوعي يعمل بالمحاماة  أن أحد رفاقه السابقين في حركة الطلاب اليساريين في جامعة القاهرة ( فرع الخرطوم) دخل مكتبه ليطلب منه  أن يساعده في رفع  دعوى قانونية ضد أحد زبانية أمن النميري الذي  كان  قد اعتدى عليه بالضرب و التعذيب في مكاتب الأمن في مطلع الثمانينات

سأل المحامي صديقه المغبون : هل عندك شهود على واقعة التعذيب ؟ فرد الصديق

لا ما كان في شهود غير ناس الأمن. فقال له المحامي

إذا ما عندك شهود  ما عندك قضية

فتساءل الصديق في دهشة كبيرة: طيب زول زي دا نعمل ليهو شنو؟

فرد المحامي ممازحا: و الله إلا  تنسى الحكاية أو كمان تمشي تخلص حقك بإيدك و تضربو زي ما ضربك

 و على هذا غادر الشاب المغبون المكتب  دون أن يعلق على  الأمر

قال الصديق المحامي أن ظروفا جمعته بالرفيق المغبون بعدها بأسابيع فسأله  في عز الثرثرة

أها عملت شنو مع زولك بتاع الأمن؟

فرد الصديق المغبون

و الله مشينا أنا و أولاد  أهلي ضربنا ليهو الباب و لمن طلع وقعنا فيه ضرب شديد بالعكاكيز لمن خلصت حقي. و بعد داك ركبنا  رجعنا حلتنا

فسأله الحاج

و أهله عملوا شنو ؟

فرد الصديق

 قلنا للناس الكانوا واقفين من أهله و جيرانه إنو الزول دا كان ضربني في مكاتب الأمن و ما فيهم زول  قال حاجة

و هكذا طوى الرفاق و أهلهم البواسل صفحة شخصية من  ميراث المظالم المايوية على شرع  العهد القديم   و يبقى السؤال

لأي حد يمكن تصفية ورثة المظالم و التجاوزات و الحزازات السياسية بمنطق السن بالسن و العين بالعين و قد تراكمت  مظالم  عهد الإنقاذ على  مظالم عهد مايو على مظالم  عهود أوغل في الظلام؟

قال” المهاتما غاندي” مرة لبعض خصومه السياسيين الذين كانوا يجادلونه بحجة ” العين بالعين”: هؤلاء الناس قمينون بتحويل الهند إلى شعب من العُوُر. و قولة الرجل الحكيم  تظل عامرة بأكثر من معنى حسب المحمول السياسي الكامن وراء العبارة في منظور كل من الفرقاء الضالعين في النزاع الإجتماعي.و رغم بداهة القاسم الأخلاقي المشترك  المضمر في عبارة غاندي بين موقف الغفران النصراني و  موقف اللاعنف  الهندوي في تحرير المجتمع من  عبء صيانة العنف المؤسسي، إلا أن بين  غايات الغفران النصراني و اللاعنف الهندوي ،فارق سياسي كبير فحواه أن أهل الغفران النصراني يتسامحون و يحيلون سؤال العدالة ناحية الإرادة الإلهية العليا، و قد يؤجلون” الحساب ليوم الحساب” ،بينما لا يستغني دعاة موقف اللاعنف عن إقامة العدل ورد المظالم المادية و الرمزية في إطار المجتمع الواقعي. و اللاعنف مكيدة  فردية بأسها الرمزي يعتمد على منطق القناعة الأخلاقية الشخصية لكسر حلقة العنف ، وذلك من خلال معارضة فقه العدل الثأري الذي تتولى أمره ، نيابة عن الأفراد ، الدولة أو المؤسسة الجمعية المختصة، معارضته بفقه اللاعنف.و حيلة اللاعنف تنطوي على  إرادة  سياسية  غرضها أن تفلت ، في آن معا، من  طائلة الغفران الديني النصراني و من طائلة العنف السياسي ( المؤسسي و العفوي )

لكن موقف اللاعنف ، بحكم قاعدة القناعة الأخلاقية الشخصية التي يتأسس عليها، يبقى باهظ التكلفة في حساب الزمن السياسي و في منظور الواقع الإجتماعي.و لهذا يبقى  موضوعا طوباويا نبيلا يكيل له السياسيون المستعجلون آيات الإطراء لكنهم ، على المستوى العملي ، يفضلون عليه مسالك أخرى. و هذا الواقع يردنا للخلاف القديم بين حكم الفيلسوف و فلسفة الحاكم

و في هذا المنظور لا أرانا في حال من السعة المادية التي تسوّغ لنا أن ننصّب  الفيلسوف حاكما بيننا ،كما لا أحسبنا في حال من  السماحة الرمزية التي تسوّغ لنا نعهد بتفاكيرنا الى سلطان جاهل قادته  ملابسات العنف الغاشم إلى سدة الحكم. و ربما كان المخرج  في أن نحفظ للفيلسوف  خانة في مقام السلطان و أن نفتح للسلطان نافذة نحو مقام الفلسفة.أقول قولي هذا واستغفر الله لي  ولكم كوننا جميعا نتحدث داخل أرض الفلسفة بينما السلطان الغاشم مشغول بأولويات حماية نفسه الأمّارة المتآمرة  و تأمين امتيازاته المذنبة. هذا السلطان الغاشم مشغول بمصلحته الضيقة و لا علاقة له بالعمل العام و لا بالحلم الطوباوي.بل هو شخص غريب و خارج بالكلية على الآيديولوجيا الطوباوية التي يمكن للسودانيين أن يفبركوا على قاعدتها اتفاقات الحد الأدني للعمل العام

سؤال جانبي: هل نخلص من هذا إلى الإنصراف عن نهج المهاتما غاندي في  تدبير شفاء مجتمعنا من  عواقب سنوات العنف ؟ مندري، بيد أن الوعورة الأخلاقية لدرب اللاعنف الغاندوي تنطرح في أفق الشفاء السوداني كتحد حضاري  يغري بالمحاولة..و المحاولة لا تضيرنا في شيء إن لم تنفعنا بطريقة ما و الأرضة جرّبت الحجر كما تقول بلاغة الأهالي.و أرض الواقع السوداني عامرة بإحتمالات و مفاجآت لا يعرفها الأدب السياسي لغير السودانيين

(6)

 حكاية مصطفى

هل سمعتم بحكاية الأستاذ مصطفى حامد ؟

قالوا أن  مصطفى حامد  

 ، كان رجلا رقيقا طيب المعشر يدين بالبوذية. و أظنه كان البوذي الوحيد في عصره. قالوا أنه احتاج لطاولة فطلب من نجار في الحي أن يصنع له الطاولة و اتفق معه على الأجل و الثمن . و بنيته الصافية  دفع للنجار حقه مقدما، فوعده النجار بتسليم الطاولة  خلال أسبوع. لكن النجار لم يرعى وعده و مرت أسابيع و مصطفى يلاحقه بالسؤال و الرجل يماطل.إلى أن جاء يوم  قال مصطفى للنجار : إذا لم تسلمني الطاولة  فعليك أن تتحمل مسؤولية  موقفك. قالوا أن النجار  رد ساخرا : يعني حتعمل لي شنو؟فقال مصطفى: إذا لم تسلمني الطاولة خلال أسبوع فسأقوم بإضراب عن الطعام بلا  نهاية.قالوا أن النجار ضحك و مضى لحاله.لكن مصطفى انتظر نهاية الأجل المحدد و دخل في إضرابه عن الطعام. و بعد يوم انتشر خبر أضراب مصطفى عن الطعام في المدينة. و لما كان الناس يعرفون جدية مصطفى و صدق عزمه بدأ القلق يتسرب إلى نفوسهم من عواقب الإضراب و أخذ الناس يتقاطرون  على دار النجار و ورشته يلومونه على قلة أمانته و يطالبونه أن يسرع في تسليم الطاولة خوف العواقب الوخيمة التي يتحمل  هو وحده مسؤوليتها. وكانت  نتيجة هذا الضغط النفسي الكبير أن النجار وجد نفسه في حرج كبير دفعه للإسراع في إنجاز طاولة مصطفى وتسليمها بأسرع وقت

و إذا كان موقف اللاعنف “الغاندوي”  عند مصطفى حامد الأمين يملك أن يفرض على  الصنايعي الأمي إحترام  العقد الأخلاقي بينه و بين زبونه فمن باب أولى أن الشعب المسالم يملك من الحيلة ما يمكنه من أن يفرض على السلطان الغاشم صاحب الادعاءات الطوباوية احترام العقد الإجتماعي بينه وبين الرعية 

لحمالحقيقة والمصالحة؟

لجان الحقيقة والمصالحة ، ولنسمها “لحم”، مفهوم  قديم في العمل العام سابق بعقود لإستخدام الجنوب أفريقيين له. فمذ بداية السبعينات بدأ مفهوم الحقيقة و المصالحة في الظهور مع نهاية عهود الديكتاتوريات الدموية في بلدان أمريكا اللاتينية ( الأرجنتين وشيلي). ورغم أن بعض بعض هذه اللجان اهتمت بـمفهوم “الحقيقة ” أكثر من اهتمامها بمفهوم” المصالحة” إلاّ أن فكرة المصالحة الوطنية ظلت ماثلة في خواطر القائمين على هذه اللجان بصورة أو بأخرى.و يمكن تلخيص السمات المشتركة بين غالبية لجان  الحقيقة والمصالحة في السعي لشرعنة التحقيق وجمع المعلومات عن فترات انطبعت حوادثها بطابع السرية و الكتمان، و أن طبيعة الأسئلة التي  تشغل القائمين عليها تدور بطريقة أو بأخرى حول التجاوزات الإجرامية في تعامل السلطات مع حقوق المواطنين أفرادا و جماعات و حول ضرورة تحديد المسئولية والخروج بنتائج واضحة ضمن جدول زمني محدد.فضلا عن أن معظم لجان الحقيقة والمصالحة  تجعل الأولوية لممارسة صلاحياتها على المستوى الرمزي (معرفة الحقيقة) قبل المستوى العدلي (معاقبة المسؤولين أو العفو عنهم)

و أهم تجليات “لحم” تتمثل في تجربة أهل جنوب أفريقيا بعد إنهيار نظام التفرقة العرقية  المعروف بالـ “أبارتايد”. و هو النظام الذي حكمت عليه الأقلية االبيضاء أغلبية السكان السود على مدى ثلاثة قرون ، و باركته الكنيسة الإصلاحية الهولندية ( بروتستنت) منذ عام 1948 بحجة أنه تعبير عن إرادة الله، بينما ” تحملته” و لم تعارضه الكنائس الإنجليزية الأصل. و في الحقيقة لم  يكن في مصلحة الأوروبيين من أتباع الكنائس البيضاء التخلي عن الإمتيازات المادية و الرمزية التي كان يوفرها لهم نظام الأبارتايد.و قد ألغت  حكومة ” دوكليرك” نظام الأبارتايد عام 1989 و أطلقت نلسون مانديلا و فتحت الأبواب أمام جنوب أفريقيا ديمقراطية متعددة الأعراق

في ظل النظام الجديد بدأت أصوات تنادي  بنسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، بينما نادت أصوات أخرى بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في حق السود أبان عهد الأبارتايد، و على خلفية هذا الخلاف حول الأسلوب الذي تبتدر به جنوب أفريقيا طريق مستقبلها  بدأت أطراف مجهولة في تصفية حسابات ميراث الأبارتايد يشكل دموي

ضمن هذه الملابسات ظهرت فكرة ” لجنة الحقيقة والمصالحة ” كأفضل الحلول لمعالجة تركة الماضي الجنوب أفريقي بأقل الخسائر الممكنة

و قد  طرحت ” لحم” على نفسها مهمة مركبة مراميها الرمزية والسياسية  على قدر كبير من الأهمية.و تركيب المهمة يتأتّي من  كون ” لحم” آلت على نفسها أن تعتني بالطرفين في آن معا :الطرف الضحية و الطرف الجلاد

فمن جهة الضحية تسعى اللجنة لأن توفر للضحايا الاعتراف بهوية الضحية و سماع معاناتهم و إشهار  عذاباتهم أمام الملأ وهو أمر كان في حكم المتعذر أيام الأبارتايد

و من جهة الجلاّدين تسعى اللجنة لأن يقوموا بالإعتراف بخطاياهم أمام الجمهور و أن يشهروا ندمهم و أن يطلبوا الغفران من الضحايا جهارا.و مقابل هذا الطقس التطهري ( كاثارسيس)يمكن للجلاد أن يتطهر من خطاياه السابقة و يندمج من جديد في نسيج الحياة الإجتماعية بلا ملاحقة من طرف ضحاياه الذين غفروا له

و ربما كان لطبيعة الجهة الكنسية التي صاغت المفهوم الجنوب أفريقي لـ “لحم” أكبر الأثر في إكساب المبادرة صفة الطقس الديني الذي يستغني  بالمعاني الرمزية الدينية عن الإجراءات العقابية للقانون المدني.فـ ” لحم ” تدين بالكثير لواقع الإنتماء الديني النصراني لكل من الضحايا والجلادين. ووجود الأسقف الجنوب أفريقي الأسود ” ديزموند توتو” ، الحائز على جائزة نوبل للسلام، على رأس ” لحم” يكسبها ثقلا رمزيا نوعيا  يسوّغ مصداقيتها بكفاءة كبيرة  داخل جنوب أفريقيا وخارجها في نفس الوق

و هكذا نجح المسيحيون الجنوب أفريقيون  في أن يجعلوا من ” لحم ” نسخة محلية من طقس الاعتراف و التطهر النصراني. وهو أمر من الصعب تقويمة سياسيا الآن بحكم التداخل الكبير للشأن الديني مع الشأن السياسي في مجتمع جنوب أفريقيا. والوقت ما زال مبكرا  و التجربة ما زالت  قيد التأمل

لكن النجاح المحتمل لتجربة لجان الحقيقة والمصالحة في مجتمع جنوب أفريقيا النصراني لا يعني بحال أنها ستنجح في مجتمع السودان المطبوع بتعدد العقائد و الثقافات. و هذا الواقع المخالف يفتح الباب، باب الإجتهاد، أمام السودانيين لاختراع صياغة جديدة لحقيقة سودانية و لمصالحة سودانية

..

(7)

كل نفس بما كسبت.. و كل شاة.. و الحساب ولد

جاء في الأثر أن “الناس على دين آبائهم” و جاء فيه أيضا أن انخراطنا في دين الآباء إنما هو” مسلك فطرة”، شيء “في طبيعة الأشياء” بما يجعل مسلك الإرتداد عن  الدين الموروث نوعا من مخالفة الطبيعة “و من خالف أباه فقد ظلم” ، و قيل كفر

ماذا نفعل مع تركة الخطيئة الدينية التي ورثناها فيما ورثنا من متاع الأسلاف؟ أقول “الخطيئة الدينية” و في خاطري مواقف الديانات الرئيسية التي أسست مفهومها للوجود على تقليد الخطيئة الأصلية السابقة لكل الخطايا و المؤسسة لمبدأ الذنب الذي يتحالف على صيانته  الأبناء و الآباء  كدستور لكل تبادل إجتماعي

التقليد الديني الهندوي الذي يعتمد مبدأ تناسخ الأرواح يفسر شقاء الإنسان (أو سعادته) بطبيعة المسلك الذي اتخذه ضمن حياة سابقة. وهو ما يعرف بمفهوم الـ ” كارما”. و الكارما إنعكاس لأفعالنا في حيواتنا السابقات على حياتنا الراهنة. والعمل السيئ ، عند البوذيين ، يسوء الكارما مثلما أن العمل الحسن يحسّنها. و قبل أن يبلغ التناسخ مرحلة الهيئة الإنسانية يعبر الكائن المتناسخ  إثنين و خمسين مليون  ميلادا . مما يجعل من  ميلاد الكائن في حال الإنسان نوعا من حظوة عزيزة  ينبغي على الفرد أن لا يهدرها في  كرما السيئات  حتى لا يرتد لمرحلة ما قبل الإنسان. و بلوغ الخلاص  يكون في سعي الإنسان لتحسين  قدر الكارما بالمزيد من الأعمال الطيبة التي تؤهله لإدراك السعادة في مقام  ال، ” موكشا”

و مفهوم الكارما الذي يحمل الفرد مسؤولية أعمال تمت ضمن وجود سابق  على قرابة وثيقة بمفهوم الخطيئة الأصلية في التقليد اليهودي النصراني. و هو التقليد الذي ورثنا منه  جدائل مضفورة مع تعاليم الإسلام مثلما ورثنا منه أمشاجا تخلـّلت وجودنا مع استقرار  ثقافة النسخة الأوروبية لحداثة رأس المال في مجتمعنا

و الإثم في التقليد اليهودي النصراني كامن في صميم الطبيعة الإنسانية ، و لو شئت قل أن الإثم هو الطبيعة الأصلية عند الإنسان . و ربما كان في هذا الموقف بعض تعالي الثقافة على الطبيعة و تحسبها من الجموح الطبيعي للحيوان الكامن في الإنسان . ولعل أكثر أشكال إدانة الثقافة للطبيعة تتمثل في  ترسانة الطقوس و الشعائر التطهرية التي غايتها ضبط  موضع الطبيعة :الجسد  الحي  الحيوان ،و التحكم في أحوال حركته و سكونه

قال عيسى المسيح : لا يدنس الجسد ما يدخله و إنما يدنسه ما يخرج منه . لكن ما يخرج من الجسد كثير ، بل قل : يخرج منه كل شيء.تخرج منه الحياة كما يخرج منه الموت.تخرج منه التناقضات. تناقضات الحياة كسعي تراجيكوميدي نحو الموت. تناقضات الحياة  كرغبة عن الموت ورغبة فيه في آن.. و هكذا ، و بقدرة قادر، تصبح الحياة ، حياة الحيوان في الإنسان، هي الدنس الأكبر في مشهد التقليد الديني الذي ينظم التبادل الإجتماعي من خلال ضبط أحوال الجسد

و كلم الرب موسى قائلا: كلم بني اسرائيل قائلا إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام“..” ثم تقيم ثلاثة و ثلاثون يوما في دم تطهيرها. كل شيئ مقدس لا تمس و إلى المقدس لا تجيء  حتى تكمل أيام تطهيرها. و متى كملت أيام تطهيرها تأتي بخروف حوليّ مُحْرَقَة و فرخ حمامة أو يمامة ذبيحة خطيّة إلى باب خيمة الإجتماع إلى الكاهن فيقدمها أمام الرب  و يكفّر عنها فتطهرُ من ينبوع دمها “(الإصحاح 12- سفر اللاويين العهد القديم)

وقد ذكر  الأب الدكتور ” جيوفاني فانتيني” في  ” تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث”( الخرطوم 1978) بعضا من  الطقوس النوبية الباقية في ممارسات الأهالي من آثر يهودي نصراني قديم كطقس التطهّر بعد ” أربعين الولادة”. حين تحمل الأم وليدها  لتغسله و تغتسل في النيل بمصاحبة نساء أخريات يحملن أغصان النخيل و يغنين بعض الأغاني الشعبية :” و تغسل الوالدة وجهها و يديها و رجليها و تقوم بغسل وجه الوليد و رجليه بينما تطلق رفيقاتها”..” الزغاريد. و قد تعود هذه العادات إلى الطقوس المماثلة التي تتم عند عماد الطفل بالغطاس. و ربما دمجت فيها طقوس مسيحية أخرى تحويها الرتبة المدعوة(دخول الوالدة إلى الكنيسة). و نلاحظ ان التقليد المختص بأربعين الولادة كما رسمه ” سفر اللاويين” ، أو الأخبار

 – 4-11-12  لا يزال متبعا في بعض الكنائس الشرقية بمصر وأثيوبيا وغيرها.” ص 202

” و هناك عادة أخرى في بعض القرى ما بين وادي حلفا و دار سكوت و دار المحس حتى ضواحي  دنقلا. و يسمى هذا الإحتفال ” مارية “. بعد الولادة بيومين أو ثلاثة تحمل النساء المولود إلى النيل ليغسلن وجهه و يديه و رجليه و تقود الموكب القابلة (الداية) حاملة الوليد. و تحمل امرأة أخرى طبقا مصنوعا من الأعشاب و فيه أدوات الولادة و النفايات المجموعة بعد تكنيس البيت و يضاف إليها قرص من الخبز، و يرمى الطبق بمحتوياته في النهر و تأخذ النساء قليلا من الماء إلى البيت ويحفظنها بعناية لبضعة أيام ثم يرمينها

و يذكر بعض المواطنين أن في بعض القرى لا يزال الأهالي في هذه المناسبة يغطسون الطفل في ماء النيل قائلين:” أغطسك غطاس حنا” و هو يوحنا المعمدان. و بعيد هذا الطقس إلى أذهاننا رتبة المعمودية من جهة و عادة المسيحيين في نقل بعض الماء المبارك إلى منازلهم و حفظه فيها. و تذبح في هذه المناسبة ضحية و يحرص الأهالي على أن لا يكسر منها عظم، و يوضع على حائط البيت رسم يد تحمل دم الضحية. و نعتقد أن هذه الطقوس أثر من ذبح الحمل الفصحي في العهد القديم الذي خلده المسيحيون في عشية الفصح الجديد” (فانتيني 202)

و تمثلات التقليد اليهودي النصراني ضمن الممارسات الثقافية للمجتمع الإسلامي لا تقتصر أهل وادي النيل وحدهم ، فضلا عن أن هناك الكثير من الجماعات التي تعيش ضمن المجتمع الإسلامي و تمازج  الأديان السماوية و الأرضية،كما عند بعض جماعات الصابئة الحنفاء جنوبي العراق و إيران ، والتي تعتبر القديس يوحنا المعمدان ( و هو يحيى) نبيها، و هم موحدون يطبقون بعض قواعد الشرع الإسلامي و يعتبرهم بعض فقهاء الإسلام (ابن تيمية) بمنزلة الكتابيين. و يمارسون التعميد على سنة يوحنا. و تعميدهم متعدد بين تعميد الوليد( بعد الولادة ب 45 يوم) و تعميد الزوجين و تعميد الجماعة و تعميد المحتضر

و مغزى التعميد في التقليد اليهودي النصراني هو تطهير الجسد الطفل من دنس الخطايا الموروثة  بغاية تأهيله للإندماج في جسد الأمة المؤمنة.و التطهير يتم بغسل الجسد بالماء سواء بالإرتماس و الإنغمار الكامل أو بمجرد دلق الماء على الرأس

” و إذا كان الشعب ينتظر و الجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح

أجاب يوحنا الجميع قائلا: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحلّ سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس و نار

(الإصحاح الثالث، إنجيل لوقا).و تعميد الكنيسة الكاثوليكية اليوم يتم في مرحلة الطفولة الباكرة مع تعهد الوالدين و العرابين بتنشئة الطفل على   النصرانية. “

 و عند مفهوم الخطيئة الموروثة يتم الفرز و التعارض الكبير بين النصرانية و اليهودية

فشرع موسى الذي يؤكد على المسؤولية الفردية يقول

الإبن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الإبن. برّ البار عليه يكون و شرّ الشرير عليه يكون“( سفر حزقيال، الإصحاح 18)و “.. حسب ماهو مكتوب في سفر شريعة موسى حيث أمر الرب قائلا لا يقتل الآباء من أجل البنين، و البنون لا يقتلون من أجل الآباء.إنما كل إنسان يقتل بخطيئته“( سفر الملوك الثاني، الإصحاح الرابع عشر،6).”

(8)

دين الخطايا و الغفران

و يرى فاليه أن النظرية النصرانية  قد زاوجت بين شرع موسى الأول الذي يصون وزر الأباء على كاهل الأبناء و تعديلات أسفار الأنبياء اللاحقة

و من حينه تنتقل الخطيئة الأصلية بين الأجيال لكنها تنمحي بالتجسّد. و الشر الكامن بشكل مسبّق في الشرط الإنساني يصان أبدا  من عمر لعمر، إلا أن الله الذي يتجسد في الإنسان يحمل عنه ثقل الخطيئة، و يقول لكل شخص:” انطلق،فخطاياك مغفورة“. و هو الإختلاف الكبير الثاني بين النصرانية و الهندويةفبالنسبة للهندوية تتراكم الآثام مثلما تتراكم الحسنات عبر تعاقب الحيوات.في حين أن الغفران الإلهي يملك ، بالنسبة للنصارى، أن يبيض من صحائف الآثام و يرد العداد لدرجة الصفر.( و هنا  منفعة الإعتراف بالنسبة للكاثوليك)، فضلا عن أن الحساب عند البعث النصراني إنما يتعلق بالحياة الواحدة و ليس بسلسلة من الحيوات التي تناسخت عليها روح الإنسان.و هكذا يرى النصارى موت الإنسان العادل خلاصا نهائيا من  قدر الخطيئة.أو كما قال القديس بولس:”أين شوكتك يا موت؟“( رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورينثوس، الإصحاح الخامس عشر  56).”

Odon Vallet, Petite grammaire de l’ érotisme divin, Albin Michel, 2005

و في المطالبة التي صاغها المطالبون بالإعتذار يبدو جليا مسعى توريث الأبناء وزر الآباء من خلال  تكريس وتثبيت هوية عرقية وجغرافية لمجمل الأفراد الذين يمكن وصفهم بـ “الشماليين” في مواجهة  أولئك الذين يمكن وصفهم بـ ” الجنوبيين” أو الـ ” أفارقة ” أو ” السود ” أو” المهمشين ، والإعتذار المطلوب من ” الشماليين “أو من ” العرب ” أو من المسلمين ” هو  من نوع الإعتذار النصراني عن خطيئة موروثة عن الأسلاف. و المطالبة  بالإعتذار تنتمي لتقليد الاعتذارات النصرانية التي تحتوي على منافع الإعتذار من غفران و تبييض و تكريس لعلاقة السيطرة الرمزية بين الجلاد بالوراثة و الضحية بالوراثة .ذلك أن الشخص  الذي ينتمي لهذا الكيان الغامض المسمى ب” الشماليين” حين يقدم اعتذاره فهو، فضلا عن تنصيب ذاته ناطقا رسميا باسم مجموعة لم تصطفيه،إنما يستعير موقف الجلاد بالوراثة و يجد في مواجهته من يستعير موقف الناطق الرسمي باسم الضحايا بالوراثة. و بين هذا الجلاد المزيف و الضحية المزيفة يتم تحرير نوع من عقد  نفسي  يصون حالة  من الالتباس الرمزي تتيح للمذنب الحقيقي أن يفلت من القصاص الحقيقي كما تتيح للضحية الحقيقية أن تمدد من حالة الحظوة  المرَضية (المازوشية) لموقف الضحية الأزلية. وعلاقة الإلتباس الرمزي بين المذنب بالوراثة و الضحية بالإعارة تمنع أجيال السودانيين الأصغر سنا، من المنخرطين في منطق تركة  الخطيئة الأزلية، تمنعهم من أن يتحرروا من أثقال ماض لم يصنعونه ليأخذوا بأسباب حاضرهم وليبنوا مستقبلهم بلا عقد

و النجاح النسبي لمنطق الإعتذار و العفو النصراني للجنة الحقيقة والمصالحة الجنوب أفريقية ربما كانت له علاقة بالوضع الخاص لمجتمع جنوب أفريقيا الذي يختلف عن حالة السودان بكونه مجتمع نصراني ينتفع بالمؤسسة الكنسية  في لحم مكوناته العرقية.الا أن المشكلة في السودان تنطرح ضمن واقع مغاير قوامه التعارض بين الإسلام و النصرانية و التعارضات  داخل معسكر الإسلام نفسه ، ناهيك عن محمول الإعتقادات الدينية المحلية غير الكتابية

. أقول : ربما اقتضى الأمر بضعة عقود حتى  تتضح الرؤية  لفهم المردود السياسي لتجربة ” لحم” في جنوب أفريقيا. و في نهاية تحليل ما يبقى التحفظ المبدئي من عواقب  تمرير العمل العام السياسي من قناة المؤسسة الدينية  وإنمساخ الممارسة السياسية وجها من وجوه العبادة النصرانية في بلد ينظر إليه الأفارقة  ، على اختلاف أعراقهم و ثقافاتهم ،كنموذج للديموقراطية والتعددية .لكن ربما كان أهل جنوب أفريقيا  قد اختاروا درب العبادة لأنهم  استشعروا فيه نوعا من الأمن الرمزي الذي قد  يميل إليه  هؤلاء النصارى السود الذين ضعضعتهم الصدمات الرمزية الفادحة على مدى القرون.فخيار العمل العام بذريعة العبادة النصرانية يبدو أقصر الطرق نحو إنجاز إعادة التأهيل  الرمزي للضحايا.و أعني بـــــ ” إعادة التأهيل الرمزي للضحايا” تلك الوضعية النفسية التي تتيح للضحية أن يتعالى على جلاده بذريعة العفو الذي يمنحه له طوعا.فالضحية يرفض أن يكون مثل جلاده فيرد له العين بالعين  و الدم بالدم ،كما في القانون اليهودي القديم.الضحية النصراني يصلي من أجل جلاده  على صورة  السيد المسيح الذي يحب أعداءه.” أحبوا أعداءكم ” ،و لم لا؟ فـ ” الله محبة ” أولا و أخيرا.فالمحبة ،كما في رسالة بولس الرسول، هي كل شيء”.. المحبة “..” تحتمل كل شيء وصدّق كل شيء وترجو كل شيء وتصبرعلى كل شيء” ( رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورِنـْثوس ،الإصحاح 13 .7)

و من علياء المحبة النصرانية  يتصدق الضحية على الجلاد بصدقة العفو و يرحمه.و في هذا المشهد لا يستعيد الضحية سيادته الرمزية على ذاته فحسب، بل هو يسود على جلاده و يصلي من أجل خلاص روحه. بيد أن الوصول لمقام  الإعتراف و الغفران لا يكون إلا على إتفاق ديني مسبّق يتضامن على صيانته كل من الضحية و الجلاد ضمن ديمومة العلاقة.هذا الإتفاق  الذي في أصل الدين  يصمّم فرص خلاص الإنسان ضمن مقام الغفران و يفترض ، منذ البداية ، أن الإنسان  كائن آثم، و أن الإثم طبيعي مودع في دخيلته كقدر  لا فكاك منه ما لم يرحمه الله بنعمة الغفران

(9)

والمسلمين؟

ماذا فعل المسلمون بتركة الأديان السابقة على الإسلام؟

أفضل الحديث هنا عن” المسلمين” و ليس عن” الإسلام ” وذلك في محاولة لتجنب التعميم التجريدي الذي  يملك أن يجرنا في مباحث و مناقشات بلا نهاية عن هذا الموضوع  الواسع الهلامي الذي ينطوي في ثنايا هذه الكلمة المبهمة : ” الإسلام”.و حين أقول المسلمين انا استعيد في الخاطر صورة المسلمين الذين نعرفهم من أهلنا الذين كتب عليهم أن يتمسكوا بدين الفطرة و الحس السليم بعيدا عن الأمور المشتبهات ( من نوع فتاوى إرضاع المرأة لزملاء العمل لرفع الحرمة عن الإختلاط) لأنهم  وجدوا في إسلام الحس السليم منفعة اجتماعية براغماتية تفوق المنافع اللاهوتية و العرفانية التي تشغل خواطر أهل الذوق الصوفي

المسلمين الذين استحضرهم هم على صورة  الأهالي الذين يعتقدون في إمكانية وجود” سورة الثور” بجانب ” سورة البقرة”

طبعا هذا الدين الشعبي الذي صانه الأهالي مختلف عن ما اصطلح عليه ، في سنوات السبعينات ، بعض المثقفين التمازجيين “السناريين” بمفهوم ” الإسلام السوداني” المتسامح المسالم الذي انتفعوا به سياسيا في معارضة ” الإسلام الأصولي” السلفي.فالدين الشعبي دين براغماتي لكن براغماتيته لا تزكيه في كل الأحوال ، فالتاريخ يحفظ لنا أمثلة كثيرة من براغماتية الدين الشعبي التي دفعت به في  دروب مظلمة سلفيتها  لا تقل عن سلفية  غلاة الأصوليين. و سأعود  لحكاية ” الإسلام السوداني ” لاحقا

الإسلام كرسالة خاتم الأنبياء ينطوي على اعتراف ضمني بمشروعية الأنبياء السابقين و يتكئ  على ميراث الديانات السابقة في موضوعات محورية مثل  الوجود و العدم و الحرية والمسئولية و الإثم و الغفران و البعث بعد الموت إلخ.و المسلمون رغم  اعترافهم بسلسلة الأنبياء اليهود على وعي بأوجه الخلاف بينهم وبين اليهود و  المسيحيين.و في السودان ـ بحكم غياب الأثر اليهودي ، يعرف المسلمون الحدود بينهم و بين الآخرين على أساس تراتب هرمي يكون  النصارى فيه بمثابة أقرب الأقرباء للإسلام. والمسلمون  يعون أوجه الإتفاق مع النصارى على أساس فكرة التوحيد مثلما يعون الفرق بينهم و بين النصارى على رفضهم لمفهوم التجسّد النصراني.ف ” الله أحد، الله صمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد”

لكن المسلمين يلتقون مع التقليد اليهودي و النصرانى عند تقاطعات مفاهيم الخطيئة الأولى والغفران بأشكال متفاوتة و مركبة. كل هذا يحتاج تمحيصه لفريق بحث  بحاله في سوسيولوجيا الدين. لكني  أخلص من هذا لإستنتاج بدائي فحواه أن بعد المسلمين السودانيين عن طائلة  الثقافة النصرانية يثلم حساسيتهم الدينية تجاه  المطالبة بالإعتذار عن  تركة خطايا  الأسلاف سيما و الإعتذار مطلوب من جماعة هلامية سياسيا لجماعة أخرى لا تقل عنها هلامية على مستوى الإنتماء السياسي.فلكل نفس ماكسبت وعليها ما احتسبت و ” الحساب ولد” على المستوى الفردي.ناهيك عن أن  المطالبات بالإعتذار التي تصدر عن منظمات سياسية ليست منزّهة تماما، من وجهة نظر صحيفة سوابقها في منظور  حقوق الإنسان، تملك أن تضعف من مصداقية دعوى الإعتذار في خاطر الشعب ، إن لم تبتذلها كمجرد مناورة سياسية عادية 

أخلص من هذا أن أهل الديانات السماوية و الأرضية يخلصون إلى حل مشاكل الحياة ( و الموت) بعيدا عن الحياة الحقيقية في الآن و هنا، الحياة الدنيا التي نتقاسمها جميعا على اختلاف دياناتنا ومعتقداتنا. وعند “هؤلاء الناس” تعتبر فكرة ” الحياة الأخرى” (أو الحيوات الأخريات ” ) إجابة عالية الكفاءة لسؤال الموت.و ضمن  مفهوم الحياة الأخرى يحلون كل مشاكل الحياة الدنيا. فمن يتوب عن خطاياه و يعتذر ويطلب الغفران يغفر له  و من  يتجبر يعاقبه الله أو تدركه ” كارما” تليق بفداحة أعماله .طبعا المشكلة مع هذا المخرج  الماورائي هو أنه لم يعد مقنعا للأشخاص غير المتدينين.فما العمل؟ وكيف السبيل إلى مخرج يليق بتركيب الواقع الذي نسعى ضمنه لتأسيس أدب لشفاء السودانيين من عواقب  عهود العنف؟

و  تجربة الشفاء المغربي

  الشفاء من العنف السياسي ممكن في مجتمعنا لكن  تحقيقه يستحيل  بدون إرادة شعبية، والإرادة الشعبية مستحيلة في غياب الممارسة الديمقراطية واستقلال القضاء، و الممارسة الديمقراطية  واستقلال القضاء،  في  نظر عيال المسلمين من سدنة التقليد السياسي المحافظ  في مجتمعنا الواقع تحت هيمنة قوى السوق المعولم ، تفهمان في مدلول  الفتنة و الفوضى و انفراط عقد الأمة . و في هذا المشهد تحضر تجربة “هيئة الإنصاف والمصالحة” في المملكة المغربية (2004ـ2006) ـ  لتكشف لنا عن الصعوبات السياسية التي تعترض مسار المصالحة و الشفاء من العنف السياسي

« »هيئة الإنصاف والمصالحة هي لجنة مغربية لحقوق الإنسان والحقيقة والمصالحة ظهرت في السابع من يناير 2004 عندما وقَّع الملك محمد السادس مرسوما ملكيا بإنشاءِ هيئة الإنصاف والمُصالحة لمساعدة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والنظر في عددٍ من القضايا بما في ذلك قضايا التعذيب والاختفاء القسري والاعتقالات التعسفية التي ارتكبتها النخبة الحاكمة في الفترة الممتدة من عام 1956 حتى عام 1999 وهي فترةُ حكم الملكيْن  محمد الخامس و الحسن الثاني ، أما أهدافها المُعلَنة فكانت تعزيز حقوق الإنسان في المغرب

عملت هيئة الإنصاف والمصالحة بموجبِ تفويضٍ مدته سنتان (2004 حتى 2006)ـ و حقَّقت في ما يقربُ من 20,000 حالة وقدمت عديد التوصيات للدولة بناءً على الحالات التي نظرت فيها بما في ذلك توصيتها للدولة بتقديمِ تعويضاتٍ (مالية ونفسية وطبية واجتماعية)ـ وكذا التوصيّة بتعديل الدستور والتصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فضلًا عن توصيّات أخرى »ـ

اعتُبرت هيئة الإنصاف والمصالحة لجنة تحرّي غير مسبوقةٍ في المغرب و احتفى بها الكثيرون كفاتحة خير نحو مجتمع معافى من أمراض الاستبداد السياسي.لكن وراء المشاعر المتفائلة كان شعب المغرب على وعي باستحالة مساعي الإنصاف و المصالحة لأن ملك المغرب هو من أصدر مرسوم إنشائها  و وضع امامها المحاذير الإجرائية التي تحرمها من  الصلاحيات القضائية في ،الانتهاكات التي ارتُكبت في عهد والده و جده الراحلين وهما الذين ورثَ عنهما السلطة،كما انتقد الكثيرون الهيئة منذ البداية على الإطار الزمني للقضايا التي ستبثُّ فيها حيثُ حصرت فترة الانتهاكات حتى سنة وفاة الملك السابق بينما طالب كُثر بضرورة بثّ الهيئة في انتهاكات حصلت ما بعد 1999. و هي بداية حكم الملك محمد السادس انتقد آخرون الهيئة لأنها لا يمكنها تسمية أيٍّ من الجناة، حيثُ انتقدت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش هذا الجانب من الهيئة بسببِ عدم اتخاذها إجراءات قضائية ضد الجناة بغضِّ النظر عن الجريمة المرتكَبة. لم تُطالب الهيئة بعزلِ بعض المسؤولين المتورّطين من مناصبهم كما لم تكشف عن أسماء المسؤولين المتورطين في الانتهاكات ولم تُوجّه تهم إليهم بارتكاب أي جريمة أو إجراء ولم تُطالب بالقبض على المسؤولين الذين ثبت صلاتهم بالانتهاكات بسبب مخاوف بشأن استقرارِ الحكومة. ـ]

لم يذكر التقرير النهائي للهيئة منطقة الصحراء الغربية التي كانت من أكثر المناطق قمعًا في تلك الفترة، حيث زارت هيئة الإنصاف والمصالحة المنطقة لمدة عشرة أيام فقط وأُلغيت خطط عقد جلسة استماع عامّة هناك. منذ صدور التقرير عام 2006، نُفّذَ عددٌ قليلٌ جدًا من التوصيات أما الإجراءات فقد طُبقّت ببطءٍ شديد، في حين لم تجرِ أي محاكماتٍ للمتورطين في الانتهاكات ولم تصدق الحكومة بعد على قانون المحكمة الجنائية الدولية

و هكذا فهم الشعب المغربي ان المصالحة أمر في حيز الإمكان لأنها ضرورية لصيانة تماسك الجسم الإجتماعي لكن المصالحة بدون إنصاف لن تؤدي 

للاستزادة  في موضوع  هيئة الإنصاف والمصالحة انظر   رابط ويكيبيديا

و ماذا نصنع بالشعب؟

 لمحجوب شريف “شاعر الشعب”  كما يسميه  معجبيه عقيدة  لا تتزعزع في الشعب عبر عنها في أكثر من قصيدة

ا ﻟﺸﻌﺐ ﺣﺒﻴﺒﻲ ﻭﺷﺮﻳﺎﻧﻲ

ﺃﺩﺍﻧﻲ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ

ﺍﻻﺳﻢ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ

ﺇﻧﺴﺎﻥ

ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﻄﻴﺐ ﻭﺍﻟﺪﻯّ

ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺣﺒﻴﺒﻰ ﻭﺷﺮﻳﺎﻧﻰ

ﺃﺩﺍﻧﻰ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﺷﺨﺼﻴّﻪ

ﻣﻦ ﻏﻴﺮﻭ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻗﺒﺎﻟﻮ

ﻗﺪﺍﻣﻰ ﺟﺰﺍﺋﺮ ﻭﻫﻤﻴّﻪ

ﻻ ﻟﻮﻥ

ﻻ ﻃﻌﻢ

ﻭﻻ ﺭﻳﺤﻪ

ﻭﺍﻳﺎﻡ ﻣﻄﻔﻴّﻪ ﻣﺼﺎﺑﻴﺤﻬﺎ

ﺯﻱ ﻧﺠﻤﻪ ﺑﻌﻴﺪﻩ ﻭﻣﻨﺴﻴّﻪ

ﺍﻟﻤﻬﻨﻪ

ﺑﻨﺎﺿﻞ ﻭﺑﺘﻌﻠﻢ

ﺗﻠﻤﻴﺬ ﻓﻰ ﻣﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﺸﻌﺐِ

ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ

ﻓﺎﺗﺤﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ

ﻭﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﻓﺎﺗﺢ ﻓﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐِ

ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ

ﻣﺴﺎﻛﻦ ﺷﻌﺒﻴّﻪ

ﻭﺩﻳﻨﻰ ﻣﺤﻞ ﻣﺎ ﺗﻮﺩﻳﻨﻰ

ﺷﺮّﺩ ﺍﺧﻮﺍﺗﻰ ﻭﺍﺧﻮﺍﻧﻰ

ﻓﺘﺶ ﺃﺻﺤﺎﺑﻰ ﻭﺟﻴﺮﺍﻧﻰ

ﺧﻠﻴﻨﻰ ﻓﻰ ﺳﺠﻨﻚ

ﻭﺍﻧﺴﺎﻧﻰ

ﻓﻲ ﺳﺠﻨﻚ ﺟُﻮّﻩ ﺯﻧﺎﺯﻳﻦ

ﺃﺭﻣﻴﻨﻰ ﻭﻛﺘّﻒ ﺍﻳﺪﻯّ

ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻰ

ﻭﻋﺸﺎﻥ ﺃﻃﻔﺎﻟﻨﺎ ﺍﻟﺠﺎﻳﻴﻦ

ﻭﺍﻟﻄﺎﻟﻊ ﻣﺎﺷﻰ ﺍﻟﻮﺭﺩﻳّﻪ

ﻭﺣﻴﺎﻩ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻰ

ﻓﻰ ﻭﺵ ﺍﻟﻤﺪﻓﻊ

ﺗﻼﻗﺎﻧﻰ

ﻗﺪﺍﻡ ﺍﻟﺴﻮﻧﻜﻰ

ﺣﺘﻠﻘﺎﻧﻰ

ﻭﺍﻧﺎ ﺑﻬﺘﻒ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺴﻜﻴﻦ

ﺍﻟﺜﻮﺭﻩ ﻃﺮﻳﻘﻰ ﻭﺍﻳﺎﻣﻰ

ﻣﻌﺪﻭﺩﻩ

ﻭﺗﺤﻴﺎ ﺍﻟﺤﺮّﻳﻪ

و في القصيدة التي تمجد فكرة الشعب مقطع مفتاحي في فهم محجوب لمعنى ” الشعب” حين يقول الشاعر

ﻣﻦ ﻏﻴﺮﻭ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻗﺒﺎﻟﻮ

ﻗﺪﺍﻣﻰ ﺟﺰﺍﺋﺮ ﻭﻫﻤﻴّﻪ

ﻻ ﻟﻮﻥ

ﻻ ﻃﻌﻢ

ﻭﻻ ﺭﻳﺤﻪ

« 

ذلك لأن محجوب  يرى إحتمال  غياب الشعب ككارثة وجودية تحيل الدنيا لفضاء لا يطاق “بلا لون ولا طعم ولا ريحة”. و محجوب، المثقف الشيوعي، لا يجهل أن الشعب كمفهوم اجتماعي لا يفلت من طوائل التاريخ، فالشعب في تاريخنا السياسي فكرة حديثة من جملة الأفكار التي غنمناها من حرب الثقافات التي فرضتها علينا  قوى رأس المال. وقبل  استقرار حداثة رأس المال  في مجتمعنا كان أهل السودان يتعايشون ضمن شبكة العلاقات العرقية القبلية أو الدينية الطائفية  الموروثة من  ثقافة التقليد قبل الرأسمالي. لكن  قطاعات واسعة من المجتمع السوداني تبنّت فكرة الشعب كما تبنّت جملة أفكار حداثة رأس المال (مثل” الوطن” و “الأمة” و” الديموقراطية”) لأنها وجدت فيها كفاءة سياسية كبيرة في تثبيت مبادئ التعايش السلمي بين فرقاء السياسة السودانية داخل الكيان الجغرافي و السياسي الذي أورثته  قوى رأس المال لأهل السودان، و الذي صار اسمه “الوطن”

بعد الإستقلال   حصل الفرز الجديد : سعى زعماء الطوائف وزعماء القبائل للحفاظ على امتيازاتهم من خلال صيانة علاقة “الإمام” و”السيد” و”الناظر” مع “الرعية” و”التابعين” و”الأنصار” و”أبناء القبيلة ». بينما سعت القوى الحديثة في حواضر السودان نحو صيانة فكرة الشعب كونهم وجدوا فيها فرصة للخروج من قبضة ثقافة  التقليد قبل الرأسمالي. الشعب ينظم قواه في الأحزاب الحديثة  وفي المنظمات النقابية التي تعترف بسيادة الشخص كفرد  مستقل وقادر ومريد. هذا الشعب هو كيان سياسي وديمقراطي  مفتوح للجميع. وهذه الخاصية هي التي مكنت الشعب السوداني من الوقوف في وجه الإستبداد و إسقاط الأنظمة العسكرية التي  تعاقبت على السودان بوسائل النضال السلمي. و في كل حركة مقاومة كان الشعب يبتكر اساليب عمل عام تمكنه من الإلتفاف على أدوات القهر السياسي و إبطال مفعولها ببصيرة و بذكاء سياسي غير مسبوق. هذا الشعب الذي مارس “الإضراب العام” و”العصيان المدني” و”التظاهر السلمي” و”الإعتصام”  وتتريس الشوارع “كان في كل مرة يخترع لغة سياسية  جديدة  تضيف لأدب السياسة السودانية صفحات مضيئات و تلهم الأجيال مزيدا من الثقة في  قدرة الشعب على التغيير

” ثورة أكتوبر 64″ كانت  لحظة مهمة في تشكيل وعيي السياسي و أنا صبي . فأنا من ذلك النفر الذي عاش تجربة اليفاعة السياسية البريئة في “ثورة” أكتوبر كحدث مشهدي جمعي ” هابيننينغ” يشمل كل مجتمع المدينة.،و كنت اتحسس تلك المتعة البدائية الجديدة في غبار المظاهرات الهادرة في شوارع المدينة و أنا ألمح بعض أفراد أسرتي من مختلف الأعمار وبعض أهل الحي وبعض أساتذة مدرستي وأشخاص من أعيان المدينة يتقاسمون رائحة الغاز المسيل للدموع وأصوات الإنفجارات التي تنذر بالموت و لذة التضامن العفوي بين الناس الذين لا يعرفون بعضهم . كانت تلك الـ “ثورة” هبّة عاطفية جمعية توسلت بالسياسة لقلب جملة المعايير الرمزية التي كانت تحكم المجتمع السوداني في سنوات ما بعد الإستقلال. هذا البعد المسرحي لحركة الناس في الفضاء المديني كان، و مازال ، أكثر جوانب ” ثورة أكتوبر” فتنة في مشهدي. في تلك الأيام انمسخت المدينة لمسرح كبير مشحون بالتوتر الدائم، كل فرد فيه يلعب دوره المرسوم كما لو كان الجميع قد اتفقوا على موعد اكتوبر منذ آلاف السنين. وفعلا شرعت في ترتيب أفكاري للكتابة عن البعد المسرحي لثورة أكتوبر وذلك من خلال استحضار ذكريات الصبي اليافع الذي كان يتابع المظاهرات لأسباب لا علاقة لها بالمضمون السياسي الذي كان يحفز المتظاهرين على مواجهة السلطات. ثم مرت الأيام و أنا اتأكد كل يوم من جسامة المهمة التي نذرت لها نفسي.  و حين اتأمل في هيكل المشروع القائم على فكرة المسرح كمكان  وزمان و حدث و صراع بين الإرادات المتعارضات أتردد وأمني النفس ببراح أوسع أتمكن فيه من مقاربة هذا المبحث الجليل..  و هكذا  تركت موضوع المكان والزمان والحدث لبراح تتوفر لي فيه الوثائق التي يمكن أن أبني عليها في موضوع الإرادات المتعارضات في المشهد الأكتوبري للثورة. كل هذا جرّني للتأمل في هذه الخرافة اليسارية الجبارة التي نسميها بالإرادة الشعبية، لهذا الشعب الذي نهض في وجه السلطات حتى غلبها على أمرها. وأظنني فرحت بهذه اللقية المفهومية التي تتراكب في ثناياها كل كنوز المنازعة الإجتماعية المادية و الرمزية و الظاهرة و الخفية و المحلية و الأجنبية. أتوقف هنا و أعد بالعودة

فنان تشكيلي سوداني مقيم في فرنسا. يتميّز حسن موسى بأسلوب فني فريد يمزج بين الرسم، الكولاج، الخط العربي، والنسيج، ويستخدم الأقمشة كوسيط رئيسي في أعماله. تعتمد أعماله على إعادة تفسير الرموز البصرية الغربية، وطرح تساؤلات نقدية حول الاستعمار، السلطة، والهوية الثقافية

أضف تعليق